خيوط الليل تطرز الطريق المؤدية إلى “دقة”، وسواده المفعم بالشاعرية يوشح جنباتها، وأنوار خجولة تتسلل من بين ثنايا الظلام لترسم ملامح رحلة يتلاشى فيها كل رابط مع الحاضر.
هي آثار دقة من دخلها فهو آمن من أدران الواقع ومن السوداوية ومن اليأس، كل تفاصيلها تدعوك إلى رحلة مدادها الحلم وتداعب بصرك وتتراقص على وقع النسمات التي تختال بين الحجارة مرحا، وتصافح بصيرتك زوايا وأركانا تعبق بالأسرار.
ترانيم الآثار تماهت مع الموسيقى الروحانية التي يخلقها الفنان التونسي المسافر بين الأزمنة والأمكنة والموسيقات ظافر يوسف ليرسم في كل مرة بعضا من ملامح حياته الزاخرة بالتجارب الإنسانية والفنية.
فيما يطلق ظافر يوسف العنان لعوده تزداد النسمات جموحا لتحاكي التاريخ المعتق، وتبعث الروح في قصص الحياة المنسية على إيقاع مسيرة فنان زاده الحلم والأمل والإصرار والمقاومة.
حضور هذا الفنان الذي صنع لنفسه نهجا مختلفا عن السائد والمالوف يشبه حياته المتلونة والحافلة بالحكايات على ركح دقة كان محملة بالمعاني والرسائل وموشحة بمسحة من الروحانية النابعة من روحه ومن روح المكان.
وعلى تخوم الآثار المتناثرة كخطوات زاهد يرنو إلى سكينته الروحية، تبددت حلكة الليل وتوهجت الحجارة وأشعل وكأن موسيقى ظافر يوسف بعثت فيها نورا فبدت ساحرة أخاذة تأسر الوجدان.
في الأثناء يحضن الفنان الذي عمد صوته بموسيقى تمتد في جذوره عوده فيتبدى على الخشبة بعض من أثر الإنشاد والصوفية وتلوينات أخرى تلامس البلوز والجاز وتسمو عن كل تصنيف يقيم لها حدودا أو قيودا.
عفوية وانسيابية ترافق ظافر يوسف في صولاته على الركح رفقة موسيقيين يستنطقون آلاتهم الغربية لتعانق نغماتها وإيقاعاتها سخر الشرق الكامن في بوح العود إذ ناجاه صاحبه فلم يبخل عليه بالرد.
على إيقاع حركات ظافر يوسف، عزفه، غناؤه، لا تتماعى فقط مع ما يخلقه من مساحات فنية إبداعية بل تجد نفسك ماضيا في حياته التي لم تكن سهلة البتة في علاقة بالنهج الذي اختاره ولكنه ناضل كثيرا ليحضن أحلامه تماما كما يحضن عوده.
وحينما تتفحص في العلاقة بينه وبين عوده الذي كان أنيسه ورفيقه في رحلاته بحلوها ومرها، تلاحظ الوصل بينهما حتى صارا كيانا واحدا نبض قلبه موسيقى تجول بك بين عوالم الشجن والطرب والصوفية والحنين.
حوارات وجودية تشكلت على ركح دقة بين الموسيقيين وآلاتهم، ظافر يوسف والعود
ونوراييف غابوان والدودوك وسوايلي مبابي والباص وأدريانو دي سانتوس والإيقاعات
دانيال غرسيا والبيانو وماريو روم والترومبات ووشحها صوت ظافر يوسف بهالة جعلتها عصية على التصنيف.
أسرار كثيرة تبوح بها الموسيقى وتتسرب إلى أرجاء الموقع الأثري فتغويك بمزيد الانغماس في ألحانها وملاحقة تفاصيلها المحمّلة بروايات يتلبس فيها الضحك بالبكاء وتسري بك من الأرض والسماء على نسق أعمال جديدة وأخرى قديمة لم يحد فيها ظافر يوسف عن أسلوبه الموسيقي المعتّق المتجدد.
ألحان ظافر يوسف صادقة حدّ الإيمان، نابعة من قلب إنسان رأى الحياة في أكثر من وجه وارتطم بالمستقبل مرارا ولكنه جعله ممكنا حينما صار حافيا على طريق مطرزة بالشوك لا أنيس له فيها في البدء إلا عوده.
لم تكن السبيل سهلة ولكن ظافر يوسف كان يستمد القوة من أوتار العود وريشته وها هو اليوم يزينها على طريقته بألحان متحررة من الوجود المادي تغدو فيها نغمات العود امتدادا لخلجات روحه.
مارقا عن الصورة الكلاسيكية لعازف العود، يحضن عوده على شاكلة الغيتار ويختال به على الركح، مجددا في العزف عليه يلاحق شغفه بالاختلاف ويقتفي أثر الالأمل الذي لا يفرط فيه أبدا.
حينما يتماهى مع ألحانه تتبدى لك شخصيات مختلفة من جنس الحكايات التي يعزفها ويبدو وكأنه لا يُبالي بالعالم المادي وينصهر صوته مع ذبذبات الموسيقى ويسمو بك إلى عوالم مدادها من صوفية.
حالة فنية وإنسانية، حالة حب، لها طقوسها ونواميسها، عالم متفرّد يتشكل على إيقاع الموسيقى التي أوجدها الفنان ظافر يوسف ورفاقه على الركح وصوته الممتد في الزمان والمكان.
هي ليلة معمدة بالحلم قضاها جمهور مهرجان دقة الدولي في ختام عروضه صحبة فنان كان معطاء على الركح حتى أنه لم يغادره في الوقت المقرر ومدد في وصلاته الغنائية كما مازح الحضور الذي ما انفك يحييه طيلة السهرة التي اتخذت طابعا حميميا.
وبعيدا عن الجوانب الفنية، أفلح مهرجان دقة من خلال برمجة عرض حصري للفنان ظافر يوسف في هدم حق لفكرة المركزية عبر جحافل الجمهور التي يممت وجهها شطر دقة لمواكبة عرض لا يتكرر.
جمهور نوعي حجّ إلى دقة عبر الحافلات والسيارات الخاصة، جمهور جمعه حب الموسيقى المختلفة والصادقة والنابعة من عمق التجربة الإنسانية ليرسم مع الفنان ظافر يوسف ليلة ستخلد الآثار تفاصيلها.