احتضنت قاعة الاجتماعات ببلدية القلعة الكبرى صباح السبت 19 اوت 2023، لقاء فكريا شارك في تأثيثه ثلة من مثقفي الجهة و المدن المجاورة لها تمحور حول تقديم كتابين صدرا حديثا، أحدهما للكاتب والمختص في الفن الركحي والمسرحي محمد مسعود ادريس وعنوانه “محمد علي الطاهر : الشورى والقضية التونسية من خلال رسائله للشيخ عبد العزيز الثعالبي” والثاني للصحفي محمد علي خليفة بعنوان “آلام متقاطعة”.
شهد هذا اللقاء الذي اندرج ضمن فقرة “مرايا الكتب” المنتظمة على هامش الدورة الثامنة للمهرجان الصيفي مرايا الفنون بالقلعة الكبرى بإشراف جمعية جمعية الإشراق للثقافة والفنون ودار الثقافة بالجهة، تفاعلا كبيرا بين الحضور والمؤلفين بلغ أحيانا حدّ “التصادم” الفكري نجح الدكتور توفيق بن عامر مدير هذا اللقاء في تحويله الى سجال فكري عميق ومثمر رجّح من خلاله الكفّة لصاحب الكتاب ولكن باسلوب لبق وفيه من الحنكة والدهاء ما يترجم تمكّن الرجل من اساليب الحوار والسجال. ولعلّ ما يحسب للدكتور بن عامر، عضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بيت الحكمة والمختص في الفكر والحضارة الإسلامية هو حسّه النقدي وكذلك إلمامه اللامحدود بمواضيع الكتب التي تم تناولها بالنقاش خلال هذا اللقاء.
البحث العلمي والايديولوجيا : خطّان متوازيان…
ما أجج الحماس خصوصا في علاقة بكتاب الدكتور محمد مسعود ادريس المداخلات التي تمحورت حول “اقصاء” الزعيم بورقيبة او “تغييبه” ومدى مساهمة المحور الرئيسي للكتاب وهو الشيخ عبد العزيز الثعالبي في الحركة النضالية التونسية الى درجة انه تم تجريد البعد النضالي تماما في مسيرته واعتبار حزبه “حزب صالونات” ومدى جدوى تخصيص كتاب لرسائل “فيها من التملق والتزلف الشيء الكثير من صاحب جريدة الشورى محمد علي الطاهر في غياب ردود من المرسل إليه تبين مدى تفاعله مع هذه الرسائل”. ملاحظات أثارت حفيظة الكاتب حتما -والذي اعتبر ان هذا الأسلوب كان معتمدا في المراسلات في تلك الحقبة التاريخية- لكنه نجح في الرد على ناقديه منوها بخصال “شخصية” كتابه النضالية.
اذ اعتبر ادريس “أنه لم يتطرق قط في كتابه الى الزعيم بورقيبة لأن الفترة التي تم تناولها كانت بين سنتي 1924 و1934” و ما يعني انه “لم يكن هناك اي داع لاقحام بورقيبة في هذا السياق”. وبخصوص اتهام حزب الثعالبي بانه “حزب صالونات” نفى الكاتب هذا الأمر تماما معتبرا ان “الثعالبي مؤسس الحزب الحر الدستوري التونسي كان يشكل أول اشتراكي موجود في تونس”. وهو ايضا أحد المجيدين للغة الفرنسية “حيث كان مشاركا في مؤتمر الصلح المنعقد سنة 1919 وكان يتفاوض باللغة الفرنسية”. كما عبر الكاتب محمد مسعود ادريس عن أسفه لما تم “الصاقه” بشخصية عبد العزيز الثعالبي من صفات لم تكن فيه.
ولعل ما لا يدركه العديد من التونسيين، بحسب الكاتب، أن الثعالبي كان أول شخصية تونسية مورست ضدها محاكمة رأي من طرف السلطة الدينية سنة 1904 وذلك على خلفية ما سمي بـ”سب الأولياء الصالحين” وسجن بسبب ذلك لمدة ثلاثة أشهر “قبل أن يصدر في حقه قبل ذلك حكم بالإعدام ليجد نفسه مضطرا للهروب والالتجاء بالاستانة سنة 1897”. ولم يتوقف الكاتب عند هذا الحد من تعديد المحطات التي شهدت نضالات الثعالبي مذكرا بالعديد من الملاحقات التي كان ضحيتها ولعل أهمها الحكم عليه بالسجن سنة 1920 بتهمة التآمر من طرف السلطات الاستعمارية. وحول عدم إدراج ردود الثعالبي على الرسائل التي وجهت له من قبل الصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر يرى الكاتب محمد مسعود ادريس الذي يعتبره الدكتور بن عامر “رابع أربعة من الذين اهتموا يتراث الشيخ الثعالبي على غرار الدكتور أحمد بن ميلاد والحاج الحبيب اللمسي وحمادي الساحلي” أنه لم يعثر على أي من هذه الردود داخل اروقة الأرشيف الوطني وهو ما يثير العديد من التساؤلات.
ودعا الكاتب في ختام إجابته على مجمل التساؤلات التي وجهت له الى الكف عن التقليل من قيمة المناضلين “لأن ما قدمه من بحث كان مبنيا على الأمانة العلمية الصرفة” بعيدا عن كل توجه فكري أو ايديولوجي. وهو ما أقرّه مدير الحوار الذي اعتبر أن “الباحث في المجال العلمي يجب أن يتجرد من كل الميول الايديولوجية وان لا يدلي بموقف شخصي حول مجال بحثه ذلك أن البحث العلمي لا يرتبط بالايديولوجيا بل يترفّع عنها”. وهو أمر أكده الدكتور توفيق بن عامر وحسم فيه حول كتاب “محمد علي الطاهر : الشورى والقضية التونسية من خلال رسائله للشيخ عبد العزيز الثعالبي” معتبرا أن هذا الكتاب خال تماما من اي رأي شخصي “وهو يقدم المادة بكل تجرد وكل أمانة”.
وفي سياق وضعه لحد أمام الجدل الذي استشرى حول شخصية الثعالبي “النضالية” اعتبر المفكر توفيق بن عامر أن مؤلف “روح القرآن” و”تونس الشهيدة” و”تاريخ شمال أفريقيا” و”فلسفة التشريع الإسلامي” و”تاريخ التشريع الإسلامي” هو “رجل فكر ورجل إصلاح وعالم في مستوى شكيب أرسلان والشيخ رشيد رضا وعبد الرحمان الكواكبي وسياسي يعرفه علماء الهند واليمن والعراق ومصر وفلسطين وعلماء تونس والاوروبيون وهو ايضا مناضل سياسي ولا أحد بإمكانه الشك في ذلك أو إنكاره”.
من صحفي “محرّر” الى صحفي “متحرّر”
ما يمكن ملاحظته أن النقاش حول كتاب “آلام متقاطعة” للصحفي محمد علي خليفة كان أقل دسامة ولكن أكثر هدوءا وربما يعزى ذلك الى خلوّه من “السّم” الذي من شأنه تحريك مياه الأيديولوجيا الآسنة. ولعلّ هذا الهدوء مردّه أيضا طبيعة الكاتب الانسانية حتما ولكن أسلوبه القصصي والسردي الذي جعل من الدكتور توفيق بن عامر يعرب عن إعجابه الكبير بهذا “الابداع الأدبي” و”بأصالة التأليف وأصالة الإنتاج المتمظهرة خصوصا في الارتباط الحقيقي بالواقع” خصوصا أن الأزمة الصحّية التي مرّت بها بلادنا شهدت العديد من الدراسات العلمية والمقالات التي وضعتها قيد الدرس أو المتابعة لكنها افتقرت إلى كتابات او مؤلفات توثق لها مثلما هو الشأن بالنسبة لهذا “الكتاب الأصيل الذي يصوّر حقبة زمنية في تاريخ البلاد لا فقط من خلال تسجيل الأحداث بل سجل ايضا ضمير الامة والأوضاع النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية عبر كتابة أدبية”.
ولعل هذه الكتابة الأدبية التي جمعت بين الخاطرة والقصة القصيرة كانت بمثابة المنطلق الذي مكّن هذا الصحفي-الكاتب المتأثر الى حد كبير بالابداع البلاغي الذي يتميز به القرآن الكريم وكذلك بكتابات الأديب طه حسين، من إطلاق العنان لطاقاته الابداعية حتى يتحرر من صفته الأم حيث يقول محمد علي خليفة في هذا السياق : “في هذه النصوص تحررت نهائيا من صفتي الصحفية وصرت اأكتب بذاتية اكبر تجعل من كل قارئ يجد نفسه مبثوثة في مكان ما أو ركن ما من هذا الكتاب” معتبرا أن “الصحفي هو أشد الناس التصاقا بمجتمعه فهو يراقب ويتابع وينقل” وهو ما حدا به الى الخروج من جلباب هذه المهمة التقليدية و”هذا الروتين اليومي من خلال أسلوب آخر تم خلاله استغلال لحظات الصفاء الذهني القليلة”. ميزة أكدها الدكتور توفيق بن عامر الذي اعتبر أن “الإعلامي أقدر من غيره على التقاط الحدث” مما حدا بهذا الكتاب إلى أن يكون “صورة حية لما مرت به تونس في فترة ازمة الكورونا أو تلك الأزمات السياسية والاقتصادية التي عصفت بها وما تزال الى اليوم مستمرّة”.
ميساء بن ميم، على خطى العظماء…
ما يحسب أيضا لمنظمي مهرجان مرايا الفنون بالقلعة الكبرى، هو المفاجأة السارة التي تم تقديمها للحضور وتكريمها خلال هذا اللقاء الشيق الذي امتد على مدى ساعتين تقريبا وهي الكاتبة المبدعة ميساء بن ميم صاحبة الـ15 ربيعا والتي تحدت إعاقتها البصرية واستطاعت أن تصنع لها مكانا بين كبار الأدباء. كيف لا وهي صاحبة عشر قصص آخرها “الحق المسلوب” وهي قصة موجهة للأطفال واليافعين نالت من خلالها جائزة الطفولة لكتابة القصة في المسابقة العربية “الكتابة في زمن كورونا” التي نظمها المنتدى العربي علي الدوعاجي للفكر والأدب.
فهذه المبدعة التي حباها الله بذاكرة قوية وقدرة كبيرة على الحفظ أبدت إعجابها الشديد بما لمسته في هذا الكتاب من “نفس ديني ونفس صحفي في بدايته قبل أن يتحرر الكاتب تماما من النفس الصحفي في الجزء الأخير خاصة ذلك الذي لا يتحدث (فيه) عن ازمة كورونا”.
ولم تخف الأديبة الشابة التي ما فتئت تقتفي آثار الأولين من علِية الأدباء وصفوتهم ما يعتمل في نفسها من إعجاب بما لمسته من نفس ابداعية في كتابة الصحفي محمد علي خليفة. ولعل اختيار عنوان المجموعة القصصية “: آلام متقاطعة Maux croisés” أبرز ما استفز فضولها مما جعلها تغدق الثناء والإعجاب بأسلوب الكاتب المتفرّد.