في افتتاح مهرجان نوار الملح ارتسمت ملامح أخرى لمسرح قرطاج وتبعثرت أوراق الطبقية وانتهت البروتوكولات وتبادل المفقرون والمهمشون وذوو الإعاقة أماكنهم مع المسؤولين والوزراء.
في المساحة المخصصة للكراسي والتي تخصص عادة للمسؤولين والشخصيات العامة وغيرهم من القادرين على اقتناء تذاكر بأثمان لا يقدر عليها ضعاف الحال، جلست فئات يصعب عليها النفاذ الى الحفلات الفنية لعدة أسباب من بينها قلة ذات اليد وغياب العدالة الاجتماعية التي تساوي بين الجميع.
أما المسؤولون والوزراء الحاضرون في الافتتاح فقد جلسوا في المدارج في مشهدية تحمل دلالات كثيرة تناثرت في منطقة الكراسي وتاهت بين نظرات الجمهور العصية على التفسير وضحكات الأطفال التي تترجم فرحهم بالحظوة الوقتية في مهرجان نوار الملح.
نساء ورجال، شيب وشباب، وأطفال تقاسموا منطقة الكراسي كما تقاسموا وضعيات اجتماعية قاسية بعضهم فتك به الفقر والتهميش وبعضهم الآخر أنهكته الإعاقة في دولة مازالت تتحسس طريقها لتضمن حقوقهم، يبدو التأمل في تفاصيلهم بمثابة السير على الجمر، لاسعا حارقا لما تحمله من وجع ومن قصص.
وبين التفصيل والآخر مساحة من التفكر في هذه الفسحة التي منحتها وزارة الشؤون الاجتماعية للفئات المهمشة غير القادرة على النفاذ للحفلات الفنية عبر تخصيص دعوات لهم لحضور حفل افتتاح مهرجان نوار الملح.
ووسط زحام الأفكار التي تتهاطل على نسق الإمعان في تقاسيم الوجوه وما تحمله من حكايا يتعالى صوت النشيد الوطني التونسي ويتخذ معاني أخرى على إيقاع ابتسامات الرضا والفرح التي ملأت أرجاء المسرح الأثري بقرطاج.
وإثر كلمة وزير الشؤون الاجتماعية الذي تحدث عن أهداف مهرجان نوار الملح وعن الفئات التي يستهدفها وعن الثورة الثقافية والثقافة البديلة التي تنهض بكل فئات المجتمع دون إقصاء وتهميش، تسلل صوت الممثل بلال البريكي على الركح ليعلن عن تكريم كل من الممثلين البحري الرحالي وحسين محنوش ولطيفة القفصي.
وبعد وصلة التكريم صدحت على الركح الفنانة زهرة لجنف بخامتها الصوتية فريدة متفردة، وأطلقت العنان لمساحات صوتها التي لا تعترف بالحدود وهي تختال على الركح في زي مستوحى من التراث يعكس تجذرها في الهوية التونسية.
نغمات بدوية موشحة بتلوينات موسيقية مختلفة تسربت في أرجاء المسرح الأثري لترجمة قصة عشق زهرة لجنف للتراث البدوي والكلمات الأمازيغية والموروث البربري، دعائم نسجت منهما مسارا فنّيا يحاكي خصلات شعرها المتمرّدة وصوتها المعمّد برمال الصحراء ونظراتها المحمّلة بحكايا الجدات وقصص المحبين.
على إيقاع “عالذرعانة” و”رقراق” و”ساقوه رحل” و”شامة” حملت جمهور مهرجان نوار الملح إلى عمق الموسيقى التونسية التي امتدت فيها جذورها قبل أن تعانق موسيقات العالم وتنهل منها لتترك الركح لنوال بن صالح الصوت الذي يحمل في تفاصيله قصصا كثيرة عن النساء والصمود.
أغان رسخت في الذاكرة على غرار “عايروني بك” و””شفتك مرة” و”أودعوني” رديتها نوال بن صالح على الركح كما غنت من إنتاجها الخاص في أول عودة لها للغناء بعد انقطاع عتّق صوتها.
فرح العودة إلى الغناء لم ينسها رفيقة دربها الممثلة المسرحية ريم الحمروني التي غادرت قبل الأوان ليشع سمارها في الشاشة وتتلألأ عيناها في مواجهة جمهور نوعي طالما دافعت عن حقه في الثقافة والفن.
تكريم صادق ومؤثر من نوال بنصالح لزميلتها في الفن ورفيقتها في الإنسانية في إطار يحاكي مبادئ ريم الحمروني التي لم تتدخر صوتها لتدافع عن المهمشين والمفقرين على طريقتها، على أمل ألا تغيب بنصالح عن الأركاح التي تطرب لحضورها الآسر وصوتها المميز وإحساسها العميق.
بعد صوتين نسائيين محملين بالشغف والمحبة، اعتلى الفنان صبري مصباح الركح حيث تجلت موسيقاه المختلفة التي طوع فيه الإيقاعات الغربية لصالح الموسيقى التونسية فلم يشوهها أو يطمس هويتها.
حالة الانتشاء التي تنتاب صبري مصباح وهو يردد كلمات تونسية على إيقاع موسيقى تتمثل فيها كل الجهات لا تتبدل ولا تتغير تتحدى السنوات وكل الصعاب وتتسرب إلى الجمهور الذي يتفاعل مع أغانيه التي تعزف على الأوتار الحساسة، الوطن، الصداقة وغيرها من المواضيع.
“عمري ما نسيت” و”يا ناسي” أغاني صدح بها صبري مصباح وردد معه الجمهور كلماتها حتى صار جزءا من العرض لتتعالى فيما بعد أصوات رعاة سمامة في عرض “هطايا هطايا” وتتسلل من بينها رنّة “الخلخال” في أقدام النساء ورنين الأساور إذ رقصت أياديهن.
على إيقاع أنغام رعاة تشبثوا بهويتهم وكسوا أجسادهم بملابس تشبههم في جمالهم وبساطتهم انطلقت جولة فنية عتيقة في مسارب الهطاية وانهمرت على الركح قصص الرعاة، رعاة تونس بتينها وزيتونها وحجارتها وتربتها وثناياها الوعرة ووجوهها الكثيرة الباسمة منها والمتجهّمة.
أنغام القصبة ملأت الأثير وعانقتها إيقاعات الطبل فسرت حالة من البهجة في صفوف الحاضرين، وصلة من العزف القادم من عمق التراث الموسيقي التونسي كانت بعضا من فن الحياة، حياة الرعاة بكل زخمها.
والسهرة التونسية الخالصة كانت منفتحة على كل الأنماط الموسيقية واستوعبت عرضا لمفني الراب سانفرا الذي انتظر الجمهور فقرته ما بعد المنتصف ولاقاه بنفس الحماس الذي استقبل به بقية الأصوات التونسية التي صدح كل منهم بموسيقى تعكس بعضا من ثراء الموروث الموسيقي التونسي وانفتاحه على موسيقات العالم.
وفي برمجة افتتاح مهرجان “نوّار الملح” كان للفن السابع نصيب من خلال عرض لفيلم قصير بعنوان “معالي المواطن” من إنتاج ورشة سينما مسار من تأليف أبناء مركز الدفاع والإدماج الإجتماعي بسكرة من ولاية أريانة.