“أدخلوها بسلام آمنين” آية قرآنية تتخذ معاني أخرى وهي تتربع على خزف أولاد شملة وتتوشح تفاصيلها برمانات يدوية ويتسلل كلاشينكوف من خلفيتها وتجتاح المشهدية كيانك وتلقي بك في يمّ من المفارقات.
كيف للحياة أن تولد من رحم الموت؟ كيف للنور أن يتسرب من ثنايا العتمة؟ كيف للحب أن يزهر على تخوم الحرب؟ كيف للرأفة أن تتبدى وسط أكوام القسوة؟ أسئلة كثيرة تتهاطل عليك وأنت تنغمس في عمل فني يسائل كيانك وكينونتك.
أنت لست أمام خلق فني يحتمل أكثر من تأويل بل أنت أمام تجربة وجودية خالصة تدخلها بكل ما أوتيت من سلام وأمان لتغدو الرمانات اليدوية فاكهة وأعنابا تدنو وتقترب وتنتفض أناملك رغبة في تحسسها فتكشر خلفيتها عن أنيابها ويتضح بنيان الكلاشينكوف.
في لحظة فارقة يتداعى ميناء السلام داخلك وتركض إليك كل ذكريات الحروب وأصوات الرصاص وأنات الجرحى وصرخات الوداع الأخير وسيول الدماء والدموع ولحظات الرعب التي لا تسقطها ثقوب الذاكرة.
بل إن ذكريات الحروب قد تتطلب أكثر من ذاكرة لتستوعب تفاصيلها الصغيرة قبل الكبيرة، وعلى أعتاب مشهد موشوم في الذات تقف “بين ذاكرتين” هذا الحيز المارق عن الزمان والمكان والموغل في الإنسانية والجمالية الذي أبدعته أنامل الفنان محمد غسان.
“بين ذاكرتين” معرض يحاكي البوح والمناجاة يبتلع الحرب ليلد فنا يراود كل حواسك وأحاسيسك ويحملك إلى داخلك حيث تتراكم خانات الذكريات وفي ذروة الفرز يهزك ويرجك وتنهمر من بين الزخارف زخات الرصاص وتتملك حالة حب مختلفة.
لا تنفك المفارقات تتعاظم في عقلك وروحك ويحدث أن يرتجف جسدك وأنت تبتسم لرؤية كلاشنكوف، أية أنامل هذه التي اقتلعت هذا السلاح من معجم الحرب وجعلته مدخلا للتفكر في الحياة، أي خيال هذا الذي أنجب فكرة تصالحك معه؟
في الواقع هو وشم قديم في ذاكرة محمد غسان يعود إلى سن الثامنة عشر فترة حرب الخليج الثانية حينما احتضن الكلاشينكوف في أوج القصف واختلجت أنفاسه وتبعثرت نبضاته على وقع تطاير الشظايا، فصار لأداة القتل روح ونبتت لها يد ربتت على قلبه وآمنته.
وفي ذروة الحرب وجد الفنان الذي رسم نهجه بوضوح منذ البداية طريقه إلى الحب، حب غير كلاسيكي لا يعرف طعمه إلا هو الذي يعرف جيدا معنى أن تدخلها بسلام آمنا وتعانق كلاشينكوفا التحم مع جليز أولاد شملة ومد جذوره في الزخارف التونسية التي طمست بعضا من أثر الموت على وجهه.
وتلك اللحظة الحميمية التي تشكلت على ضوء القصف وصوت ارتطام الشظايا بالأرض تخيم في كل تفاصيل مشغل محمد غسان الذي يؤوي بعضا من أعماله المركبة مفاهيميا وتقنيا، فهو ينظم أعماله على شاكلة كلمات تتعانق على اعتابها المتضادات والثنائيات تحاكي فرادة خلقه الفني.
هذا الفنان الذي سطر طريقه بوضوح يحاكي وضوح صوت طائرة b52 وهي تشق سماء بغداد، درس الفنون الجميلة وأنهى دراسته في تونس وصار أستاذا جامعيا يهرع إلى مشغله كل حين ليصنع من القلق والهواجس منحوتات تتشرع معها أبواب ذاكرتك ووجدانك.
وجوه غير واضحة المعالم وأجساد مختلفة وأشكال تؤدي كلها إلى الإنسان تحاوطك من كل الجنبات وتغويك بالانغماس داخلك، تلبي النداء وتستأثر بك عبارة ” قلق” التي تتقدم منحوتة تشدك إلى تفاصيلها كلما تقدمت نحوها.
على إيقاع القلق تتخفف من عبء الأقمشة التي تكسو جسدك وتخوض حروبك الصغيرة في مواجهة كائن دبت فيه الروح فجأة وصارت تحثك على البوح والاعتراف وتتهافت الذكريات وتتسلل إلى فوهتين في محيا هذا الكائن تحاكيان عينين وتتزاحم داخلك المشاعر وتنقذك عبارة “إنسى”..
للحظات تنسى الوضعية التي كنت عليها وحالة الهون والهشاشة التي أضحيت عليها أمام منحوتات تُربت على روحك وتخفف من أوجاعك وتعيد صياغة المعاني لكل الأشياء من حولك ولكن النسيان يستبد بك من جديد وتتداعى مشاعرك المتزاحمة وأنت تبحث عن معنى له..
وفي رحلة البحث تصطدم بأجساد وأفكار وقصص لم تنته بعد وتقف في منطقة وسطى بين الحقيقة والخيال وبين الحياة والموت وتنتشلك عبارة “دار السلام” من وطأة الحيرة وتتوه في تفاصيل الزخرفة وتهدأ روحك المضطربة من اجتياح الأسئلة.
حيثما وليت وجهك في المكان تستشعر سحرا وطاقة تملؤك من أخمص قدميك إلى رأسك وتغرق في التساؤل عن روح هذا الفنان الهادئ فيما يعج الأثير بصخب أعماله المثيرة والمغرية بالانغماس فيها وتنتشلك عبارة “كما تزرع تحصد” ومن ورائها كلاشينكوف.
تقع في حب الكلمات ويحملك السلاح إلى الحرب وساحات الوغى وتستحضر الأشلاء والدماء وأكوام الركام وتنشطر روحك إلى نصفين، نصف يحمل لواء الحب ويتأمل تفاصيل المكان بعشق ونصف يرتجف إذ أثقله لواء الحرب.
الحب والحرب بعض من مفاتيح الفنان الذي يحاكي أعماله عمقا وحرية، ومن حالة الحرب إلى حالة الحب تسقط الراء عند فوهة قذيفة متلألئة كفستان عروس هي أول الروح التي تسري في كل زوايا المكان وأركانه وتغويك فراشات تحاوط الكلاشينكوف باقتفاء أثرها الذي لا يزول..