بات من الجليّ اليوم وغزّة الفلسطينية تئن تحت وطأة القصف الهمجي الصهيوني المتواصل منذ أكثر من أربعين يوما والذي راح ضحيته عدد غير مسبوق من الشهداء والجرحى فضلا عن حجم الدمار المروع الذي خلفه، أنّ تغييرا كبيرا سيحدث في خارطة المنطقة وأنّ مستقبلها بعد هذه العدوان المدمّر على غزّة سيختلف تماما عن ماضيها.
ولعلّ ما ابدته المقاومة الفلسطينية من استبسال خلال عملية “طوفان الأقصى” أوفي مواجهتها للاجتياح البرّي الذي تنفّذه قوات الاحتلال منذ أسابيع، قد زرع بذور الأمل في قدرة الفعل المقاوم على قذف الرعب في صدر العدوّ وهو ما دفعه اليوم إلى القبول بالهدنة الانسانية بعد أن كان يعتبرها شكلا من أشكال الهزيمة.
ولئن كانت المواجهة على الأرض هي أقصى وأقسى أشكال المقاومة فإن دعمها هو ايضا فعل مقاومة غير مباشر وهو من أبسط وأوكد مظاهر التضامن مع شعبنا المرابط في الأراضي المحتلة والذي يواجه أبشع جرائم الحرب ويتعرّض الى ابادة جماعية في ظل صمت عربي مهين وتواطؤ دولي مخز خصوصا من قبل أعتى القوى الغربية.
وليس من الغرابة أن نرى تهافت معظم هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية على دعم الكيان الصهيوني الغاشم وشدّ أزره في مواجهته لشعب أعزل في غزّة المناضلة التي تأبى الّا أن تلقّن الاسرائيليين في كلّ مواجهة دروسا في النضال والمقاومة والاستبسال من أجل الدفاع عن الحق والأرض. كيف لا وهي تِلكُم الدول نفسها التي حوّلت مجموعات من الأقليات المتفرّقة والمتشتّتة عبر الزمان والمكان الى “شعب” موحًّد ومتعايش ومتضامن وصنعت منها سنة 1948ــ تاريخ نشأة كيان صهيوني هجين ــ شوكة في حلق الأمّة العربيّة التي ارتضى لها أغلب قادتها وصنّاع قرارها الهوان والذلّة بفعل تواطئهم وخذلانهم وتهاونهم في الذّود عن عزّة فلسطين قلب الأمّة وصمّام أمانها ورمز مناعتها.
ولعلّ هذا الخذلان الذي ما فتئ يبديه حكام العرب وقادتهم أمام صلف الكيان وعنجهيّته هو من بين أبرز الأسباب التي دفعت بالشعوب الحرّة في سائر الوطن العربي خصوصا والإسلامي عموما الى التحرّك وخلق طرق جديدة وأحيانا مبتكرة كشكل من أشكال المقاومة باعتماد كل ما هو متاح خصوصا أمام آلة القمع التي تعتمدها بعض الأنظمة العميلة في كبح جماح المتظاهرين والمحتجين على شتى مظاهر العدوان الصهيوني الغاشم في الأراضي المحتلّة. وما التحرّكات الشعبيّة التلقائية أو التظاهرات والملتقيات والانتاجات الأدبية والفنّية بمختلف أنواعها ولقاءات النخب العربية وتداولها لسُبلِ دعم القضية الفلسطينية الّا شكل من أشكال المقاومة على بساطة تأثيره ربّما على أرض الواقع.
ومن مظاهر هذه المقاومة الرمزيّة، الفنّ بشتى أنواعه خصوصا الفنون التشكيلية.
وكذلك فن الغرافيتي أو “فن الشارع” الذي أصبح أداة لفعل المقاومة والثورة لدى العديد من الشعوب في مختلف الدول حتى العربية منها. وليس من باب المبالغة القول إن معظم الثورات أو الانتفاضات الشعبية التي بزغ نورها في غرب الوطن العربي وتحديدا من تونس اعتمدت في مواجهة الأنظمة القائمة آنذاك على هذا الفن التعبيري الذي لاقى تجاوبا كبيرا من قبل فئات مجتمعية هامة خصوصا الشابة منها. وأصبح بذلك هذا الفنّ الذي اعتمده ايضا الشباب الفلسطيني للتعبير عن صلف المحتل ورفضه للاحتلال الجاثم على أنفاسه على امتداد أكثر من قرن كأداة وفعل مقاومته لا يقلّ أهمّية عن المواجهة المباشرة مع قوات العدوّ.
*تم تقديم هذا النص خلال الندوة الفكرية التي نظمتها جمعية علوم وتراث بالقلعة الكبرى يوم السبت 25 نوفمبر تحت عنوان "دور النخبة التونسية في دعم القضية الفلسطينية".