“وراء الجبل” التجربة الروائية الطويلة الثالثة للمخرج التونسي محمد بن عطية، تتخذ من الطيران ثيمة وتعبيرة عن الرفض ومحاولة للتغيير والثورة على السائد والنمطي.
تلك الاهتزازات التي تستبد بعضلة القلب حينما يبلغ القلق ذروته تتجلى في ثنايا الفيلم الذي تتشابك فيه القضايا وتنتهي جميعها إلى الإنسان ومساراته المختلفة وانفعالاته الممتدة من الحياة.
أبعاد فلسفية وروحية تظهر في أحداث الفيلم لتعبر دون مباشرتية عن الواقع الراهن في تونس، حالة من الهدوء الذي يسبق العاصفة وروتين مقيت ينتهي بمعانقة السماء في محاولة لتحدي الجاذبية، للطيران.
وعلى إيقاع حياة “رفيق” التي تنهار فجأة دون وسابق إنذار يحملك المخرج محمد بن عطية إلى ما وراء الجبل ويذوي الجليد شيئا فشيئا أمام أنظارك وانت تعبر بسلاسة من الواقعية إلى الفانتازيا عبر الطيران الذي يتخذ أكثر من هيئة.
هذه الشخصية التي يؤديها الممثل مجد مستورة وينغمس فيها بكل ما أوتي من تعبيرات وإيماءات وأحاسيس تقحمك في عوالمها وتضعك أمام المساءلة والمحاكمة حتى تشعر في لحظة ما أن جسدك ينتفض في محاولة لتحدي الجاذبية.
عنف مربك لشخصية هادئة تتحدث عيناها أكثر من فمها ينتهي بها إلى السجن ومن ثم إلى مصير يتعارض مع الحياة ويحفر عميقا في دواخل المشاهد المثقل بالهواجس والأدران والأوجاع.
على خطى الرجل الذي يؤمن بقدرته على الطيران تتهاطل الأسئلة بخصوص النقطة الفارقة التي تتمرد فيها الروح على الجسد المثقل بالآلام فتنشد الطيران بعيدا بشكل يحاكي في بداياته ونهاياته الاضطرابات التي ترافق نوبات الهلع.
أكثر من دلالة ورمزية لثيمة الطيران في الفيلم فالأمر لا يتعلق بالهروب أو الانعتاق والتحرر بقدر ما يحاكي صرخة مكتومة ورفضا لواقع صارت فيه الكلمات بلا معاني وأصبح الصمت ملاذا وهو ما يترجمه مجد مستورة في دور “رفيق”.
ومع الايغال في التركيبة البسيكولوجية لشخصية الفيلم قد تتمثل نفسك أو أي شخص في محيطك قد تطرأ عليه تغييرات مفاجئة وغير مبررة في نظرك ولكنها في الواقع نابعة من أسباب متعددة ونتاج لصراع داخلي ضاق به الجسد فامتد إلى الفضاء.
هذا الصراع ينسحب أيضا على بقية الشخصيات في معاركها الفردية والجمعية وفي تعاطيها مع بعض البعض، الأمر الذي يخلق حالات نفسية وذهنية تختلف باختلاف الحالة النفسية وتولد معها أشكال متنوعة للتعبير.
والطيران في الفيلم لا ينطوي على بعد مادي فحسب بل هو فكرة يمكن تمريرها من فرد إلى آخر بل إنها بمثابة طرف الخيط في عملية التفكير والتأمل لشخصيات الفيلم ولشخصيات المشاهدين، هي حجر يسقط في بركة راكدة فينتشلها من جمودها.
فئات اجتماعية مختلفة يصورها الفيلم بحضور محدود لكنه حمال لدلالات ومعاني وموظف لخدمة فكرة الفيلم والحبكة الدرامية ويراعي فيها تمثيل جيلين الآباء والأبناء والعلاقة بينهما والإرث في وجه آخر مختلف وكأن المخرج يقول “ماذا لو كان الإرث أفكارا؟”.
ومحاولة تحدي الجاذبية التي ابتدعها “رفيق” ليقول ربما إنه حي وحر ورافض للسائد والنمطي وكافر بفكرة كون الأفراد داخل المجتمعات محض قوالب سكر، سوريالية في بعدها المادي الفيزيولوجي ولكنها منطقية في بعدها المعنوي والروحاني.
هذه المحاولة بمثابة الهزة التي تختلف ارتداداتها من شخص إلى آخر وعلى إيقاعها تىتسم صور مختلفة للعلاقات داخل المجتمع وما يترتب عنها من ممارسات وسلوكيات في وضعيات مختلفة أظهرها الفيلم لينتهي إلى أن الجميع يبحث عن الخلاص بطرق متعددة.
على وقع حكاية رفيق الذي قد تبدو حياته مثالية مروا بحياة الراعي (سامر بشارات) الذي أغوته فكرة الطيران وصولا إلى العائلة التي وضعها القدر في طريق رجل يلجأ إلى العنف حينما يستحيل التعبير، عنف لم يسلم منه هو نفسه ولا زوجته ولا حتى ابنه.
هذا السيل من العنف يتبدى في تصرفات “رفيق”، في طريقة مشيه، في صوته، في سكناته وحركاته ولكنه يتهاوى في بعض الأحيان على وقع نظرة تستدر الشفقة وتدعوك إلى احتواء هذا الشخص المثقل بالصمت.
في محاولات تحدي الطيران الأولى يلتبس في عقلك الواقع وبالخيال وتصحو على إيقاع ارتطام جسد “رفيق” بالارض ومع كل سقطة تعتقد أنها النهاية ولكن شيئا ما خارقا للطبيعة يعيده إلى الحياة مرة وحينما التحم جسده بجسد ابنه في لحظة لا عنف فيها اتجهت الاحتمالات إلى نهاية أخرى مغايرة.
قطعا ليس رفيق رجلا “خارقا” ولكن ما يختلج في صدره ربما يكون امتدادا لما فعله عباس ابن فرناس في زمن مغاير بأكثر راديكالية أو هي انعكاس لرؤية المخرج الذي يهوى التحولات الصادمة ويصنع من الانهيار جماليات مختلفة.
تجليات مختلفة للتحولات والانعطافات تظهر معها أنماط فيلمية مختلفة، إذ ينهل من أفلام الحركة والمطاردات البوليسية وأفلام الطريق وأفلام الرعب في الجزء الخاص بالتيه في الغابة وفيلم طريق في رحلة السيارة ودراما سيكولوجية حينما يصبح العنف ضرورة حتمية وسبيلا وحيدا للنجاة.
قراءات متعددة لفكرة الفيلم تحيلك في البدء إلى الحرية والتحرر، في قراءة بسيطة وسهلة قبل أن تتناثر التأويلات السيكولوجية والاجتماعية والثقافية والإنسانية عموما وتتشرع أبواب التفكير على مصراعيها.
وبعيدا عن فكرة الفيلم والسيناريو والكاستينغ وإدارة الممثل اللافتة، ينطوي الفيلم على جمالية متفردة تضاهي عمق الطرح في علاقة بأماكن التصوير وزواياها والموسيقى في مفارقة يجتمع عندها قبح العنف وجمال الطبيعة واستيتيقا التحدي، تحدي الجاذبية !