هل يجب أن نعانق الموت حتى تلتئم الكسور؟ سؤال يتبادر إلى ذهنك وانت تساير السرد في فيلم “إلى ابني” للمخرج التونسي ظافر العابدين وتحاول أن تكبح جماح عواطفك على أعتاب فيلم عاطفي جدا وإنساني جدا.
في المشاهد الأولى للفيلم الذي عرض في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي يلتبس الميلاد بالموت وتعيش الشخصية الرئيسية “فيصل” (ظافر العابدين) أولى انكساراتها حينما حل ركب الموت على إيقاع أغنية عيد الميلاد، ميلاد زوجته البريطانية.
ولا يكتفي القدر بملاعبة “فيصل” الذي غادر مدينته “أبها” (المملكة العربية السعودية) نحو لندن (المملكة المتحدة) متمردا على من حوله وثائرا على السلطة الأبوية وباحثا عن حياة أخرى يرسم ملامحها بنفسه.
بعد أكثر من عقد من الزمن يشد الرحال إلى مدينته مع ابنه “آدم” ويغادر عمله محتفظا بالأسباب لنفسه لكن المخرج أتاح للمشاهد بعض الإشارات التي تتيح له تخيل مسار الأحداث دون مباشرتية ودون إضرار بالحبكة الدرامية.
فهذه التجربة الروائية الطويلة الثانية لظافر العابدين بعد تجربته الأولى “غدوة” تبدو أكثر نضجا على مستوى الكتابة والإخراج وإدارة الممثل وغيرها من العناصر التي تجعل الفيلم مقنعا ولافتا.
وإن تشترك التجربتان في كونهما من إخراج وسيناريو وتمثيل ظافر العابدين إلا أنهما تختلفان من حيث كون الأولى أفضت إلى فيلم تونسي يتحدث فيه اللهجة التونسية فيما أفضت الثانية إلى فيلم سعودي يتحدث فيه باللهجة السعودية.
وفي هذا الفيلم الموغل في العاطفية والإنسانية يظهر ثلاثة أجيال من نفس العائلة الأب والابن والحفيد في مسار قصة تبدو حبكتها واقعية بالقدر الذي يقحمك في ثناياها فتتمثل نفسك في تفاصيلها.
وهذا الاختيار فيه إحالة إلى الاستمرارية بحلوها ومرها والإرث المعنوي الذي يمر من جيل إلى آخر في تناقض مع القطيعة التي يحاول البعض الترويج لها بتعلم الصراع بين الأجيال وإن كان موجودا بتمظهرات مختلفة.
هذا الصراع الذي تأجج على وقع عناد الابن وتحديه لوالده والمغادرة إلى الخارج لم يتلاش ولم يذو مع عودته بل إنه اتخذ نسقا تصاعديا لحظة الصدام وتسرب إلى الحفيد الذي صار يوجد له ببراءة الطفولة أسبابا مضحكة.
وفي لحظة مواجهة بين الأب والابن تظهر أسباب الخلاف التي تتعلق باختلاف في الرؤى ووجهات النظر يعود إلى التنشئة وإلى السلطة التي يخالها الأباء عنوانا للتحكم في مصائر أبنائهم وإلى عناد الأبناء الذين يرون في ذلك انغلاقا وإحكاما للرأي.
في ذروة الصدام ينهار جبل الجليد بينهما على وقع انهيار “فيصل” الذي صارت معه كل الخلافات هباء منثورا وتبدى معه سبب رجوع فيصل إلى عائلته بأكثر وضوحا واتخذت فيه الحياة بعدا آخر على إيقاع ترقب الموت.
عودة فيصل وابنه آدم إلى العائلة بعد غياب كانت بمثابة رمي حجر في بركة مياه تحركت معه كل الخلافات العالقة على جدار الصمت المطبق بينه وبين أختيه ووالدهم وصحت كل رغبات التغيير دفعة واحدة.
شخصيات بملامح مختلفة تظهر في الفيلم تتدانى جميعها عند المحبة لكنها تتجافى عند التعبير والحوار وتحيل جميعها إلى الاختلاف والتنوع في المجتمع من ذلك شخصية “فارس” التي تحمل متلازمة داون تجسدت بعفوية وصدق.
واختيار هذه الشخصية يبدو موظفا في السيناريو وغير مسقط ويظهر ذلك في التناغم بينها وبين بقية الشخصيات وهذا يدل على الكتابة التي حاولت الإلمام بكل تفاصيلها بشكل يجعلها واقعية جدا.
مشاعر متناقضة تتملكك طيلة الفيلم ويربكك ترقب النهاية التي تبدو واضحة منذ البداية ولكن طريقة السرد تغذي داخلك الأمل في أن تتغير في لحظة ما خاصة مع ظهور شخصية جديدة أبدى لها “فيصل” الارتياح ولكن كل ذلك كان محض مراوغة من المخرج.
على نسق المراوغات يختلف إيقاع المشاهد بين الهدوء والانفعالات وتمعن كاميرا المخرج في مراودة عاطفتك وهي تلاحق ملامح الموت في حركات “فيصل” وسكانته وترسم بعضا من عذاباته وصراعاته التي سعى دائما أن يخوضها وحيدا.
“بعض الأشياء حينما تنكسر لا يمكن إصلاحها”. يصد الأب ابنته التي تحاول رأب الصدع بينه وبين أخيها ولكنه لم يكن يعلم أن الموت يتربص به دون علمه، هو الموت الذي التأمت كل الكسور حينما أزفت أمائره.
قضايا كثيرة تجلت في الفيلم ولامست الجوانب الثقافية والاجتماعية للمجتمع السعودي وأحالت إلى التغييرات الجذرية التي طرأت عليه وسط سعي لإبراز جمالية مدينة أبها ومعالمها الطبيعية وتراثها.
سحر المكان الذي أسر ظافر العابدين تبدى في فيلم “إلى ابني”، هذا العمل السينمائي الذي نجح في اقتلاع ضحك المشاهدين في المواقف الكوميدية النادرة والتي تظهر في ردود فعل الحفيد في بعض الوضعيات وفي استدرار الدمع في المواقف الدرامية.
وفي فيلمه الأخير، يخوض ظافر العابدين رهانا جديدا في دور مختلف يتحدث فيه اللهجة السعودية ونجح في تقمص شخصية “فيصل” وانتقل بسلاسة بين الانفعالات المختلفة وبرهن أنه منفتح على كل اللهجات دون المساس بأصالة لهجته الأولى.