على الركح تتهاطل الأنفاس وتتناثر الخطوات في اتزان وتناسق وتنساب الأجساد على إيقاع الموسيقى لتخلق كوريغرافيا انتفت فيها الحدود بين الأجساد والأرواح، في مشهد يفتتح فيلم “كواليس” من إخراج مشترك بين التونسية عفاف بن محمود والمغربي خليل بن كيران.
منذ فاتحة الفيلم تُلقي بك صاحبة فكرة الفيلم عفاف بن محمود في عوالمها، عوالم الرقص والتعبير الجسماني على وجه الخصوص وتوغل الكاميرا في الخشبة حتى تتلاشى الشاشة وتخال أنك تتابع عرضا كوريغرافيا.
حوالي عشر دقائق من الرقص المعاصر عانقت فيها عفاف بن محمود عشقها الأول فبدت متوهجة على الخشبة هي ورفيقتها ورفاقها الذين انقطعوا عن كل العالم واستسلموا للرقص قبل أن يتغير مسار الأحداث فيما بعد.
في ذروة الرقص تتبدى ملامح الفيلم شيئا فشيئا وتبوح الشخصيات بملامحها ومع تعرض “عائدة” (عفاف بن محمود) إلى إصابة على الركح إثر حديث جانبي مع “هادي” بدأت “الكواليس” تتجلى شيئا فشيئا
في التفاصيل المخفية عن عين المشاهد تغوص الكاميرا وتوثق السقطة الأولى التي ابتلعت “عائدة” وجعها واستمرت في الرقص حتى أقنعت نفسها أنها غير مصابة وقطعت الطريق أمام أي إمكانية لتفطن الجمهور إلى ذلك.
إسقاطات ذكية من الثنائي عفاف بن محمود وخليل بن كيران للمطبات التي تواجه الراقصين خصوصا والفنانين عموما والصراعات الداخلية التي يخوضها الفنان خاصة على الركح من أجل أن يتماسك أمام الجمهور ويتجاوز آلامه.
“كواليس” كثيرة استدرتها الحادثة على الركح في العرض قبل الأخير من جولة فنية لفرقة “بلا حدود” في المغرب في مدينة صغيرة يرتفع فيها الستار تدريجيا عن القصص الكامنة وراء الشخصيات المتقدة على الخشبة.
شخصيات الفيلم مركبة تحمل المشاعر ونقيضها، العلاقات فيما بينها جدلية، لكن شيئا ما يجمع بينها ويبني رابطا يجعلها متماسكة رغم كل الهزات من حولها، ربما هو الفن أو الحب أو كلاهما معا حينما يتراكمان في الكواليس.
هذه الذوات المثقلة بمشاعرها أداها ممثلون أغلبهم قادمون من عالم الرقص، سندس بلحسن وسيدي العربي الشرقاوي وسفيان ويسي ونسيم بداغ وحجيبة فهمي وعلي ثابة وعبد الله باديس وسليمة عبد الوهاب وصالح البكري.
والكاستينغ من نقاط القوة في الفيلم إذ تقمص الممثلون الشخصيات بعفوية وبساطة مما أضفى على الفيلم مسحة واقعية رغم مساحات الفانتازيا التي تظهر مع تقدم السرد وتطور الحبكة الدرامية.
فمن الركح تتجه الكاميرا إلى مسارات أخرى على إيقاع “التوتر” الذي أحدثته إصابة “عائدة” ويغدو البحث عن طبيب أولوية قصوى وفي الطريق إليه يأخذ الفيلم منحى تشويقيا ويتوشح بتفاصيل أفلام المتاهة.
حادث فردي، يعقبه حادث جماعي فتوهان في غابة مفتوحة على كل الاحتمالات، غابة صارت امتدادا للركح لكن هذه المرة لم ترقص الشخصيات أمام جمهورها بل تعرت أمام جمهور الفيلم وبثت ما يختلج في صدرها.
الغابة مكان مفعم بالتناقضات وبالجماليات في الآن ذاته، فهي ملاذ ومتنفس ولكنها أيضا تؤوي حيوانات ضارية، مساحة ممتدة بسماء مفتوحة ولكنها غامضة، حيز للتفكير والتأمل والرقص والبوح، توليفة من الأصوات والصور والمشاعر التي تمتد إلى كل الكائنات.
في هذا المكان تغدو لك الشخصيات مألوفة أكثر فأكثر وتشدك إلى حكاياتها التي تحيل إلى العديد من القضايا دون الإيغال في تفاصيلها بطريقة تجعل المشاهد يلتقط الفكرة ويؤولها على طريقته.
العشرية السوداء في الجزائر، الحرب في سوريا، الحب، مؤسسة الزواج، التحديات التي يواجهها الفنانون وغيرها من المواضيع طرحها الفيلم الذي لا يخلو من أبعاد فلسفية وجودية يُرفع عنها الستار مع تقدم الأحداث.
في بعض المواضع قد تبدو لك المشاهد طويلة نوعا ما ولكن سرعان ما يطل التبرير مع المشهد الثاني فما قد يبدو تمطيطا أو تكرارا هو تمهيد لبوح ما، شيء أشبه بحالة التنويم المغناطيسي تهيئك للانغماس في دواخل الشخصيات.
مع كل عقدة جديدة في الفيلم تتسرب إليك مشاعر التوتر لكنها لا تلازمك إذ تتوه أنظارك في روعة مكان التصوير وحركة الكاميرا وزوايا التصوير والمراوحة بين ملامح الممثلين وملامح الغابة.
في الواقع فيلم “كواليس” جعل من الغابة شخصية مستقلة بذاتها تسهم في مسار الأحداث وتحدد نسقه عبر المفاجآت التي تخفيها من ناحية وعبر تماهي عناصرها مع الشخصيات من ناحية أخرى.
ومن بين المشاهد التي ترشح جمالية في الفيلم، مشهد لسندس بن حسن في لوحة كوريغرافيا التحمت فيها مع عناصر الغابة فصارت خصلات شعرها امتدادا لأغصان الأشجار وأوراقها ولونها انعكاسا لعناق السماء والأرض.
الجمالية تمتد أيضا إلى الموسيقى التي تنهل من بيئة التصوير ومن الإرث المغاربي والافريقي والكوريغرافي التي خلقها سيدي العربي الشرقاوي والأزياء التي صممتها سليمة عبدالوهاب بروح غجرية أمازيغية تجلت أيضا في عيون الممثلين.
وهي متجلية أيضا في اختلاف اللهجات العربية المنطوقة في الفيلم ، التونسية والجزائرية والمغربية والمصرية والسورية بالإضافة إلى الأمازيغية والفرنسية ليبدو الفيلم عربيا بروح كونية.