في قشلة العطارين حيث تتهافت إلى أنفك روائح الحناء والبخور والعطور تشكّل برزخ بين الماضي والحاضر تستطلع معالمهما منذ أن تطالعك لافتة تشدك حروفها وتجول بك في تاريخ المكان الذي كان في مرحلة ما من تاريخه يعج بالمثقفين والمفكرين التونسيبن.
تاريخ بناء هذا الفضاء الذي كان في بدايتة ثكنة عسكرية (قشلة) يعود إلى سنة 1813 في عهد حمودة باشا، وإثر انتصاب الحماية الفرنسية تم تحويله إلى مكتبة ضمت رصيدا هاما من الكتب والمخطوطات باللغة العربية بالإضافة إلى رصيد من الكتب باللغة الفرنسية الموروثة من الحقبة الاستعمارية قبل أن يصبح في وقت لاحق مبنى المعهد الوطني للآثار والفنون.
وحينما تتجاوز اللافتة وتمضي إلى الأمام تلحظ آثار التهيئة التي خضع إليها هذا المعلم مؤخرا لاحتضان “دريم بروجكتس” ليكون فضاء ثقافيا يفتح أبوابه لكل الراغبين في استطلاع تفاصيله وحيزا لتبادل الآراء ومساحة للتفكير في القضايا الراهنة.
في هذا الفضاء تمتد الجسور بين الماضي والحاضر، وبين التراث والحداثة، وبين الجنسيات والفنون المختلفة وتغدو فضاءات المدينة أمكنة لخلق تعبيرات مغايرة يلتقي فيها المعمار والتراث والفن والثقافة والرسم ملامح رحلة في ثنايا التاريخ.
كتب وأفلام ومعارض تغوي الزوار بالانغماس فيها خلال الجولة في قشلة العطارين التي أصبحت قلب دريم سيتي لرمزيتها ولأهميتها في برمجة المهرجان ففيها تجسدت الشراكة بين الشارع فن والمؤسسات العمومية في ترميم المعالم التراثية وتثمينها.
وفي حلتها الجديدة ستحضن قشلة العطارين 11 عرضا في إطار قسم “دريم بروجكتز” بالتعاون مع حور القاسمي باعثة مؤسسة الشارقة للفنون والمديرة الفنية لدريم سيتي وسط إعادة تهيئة ورسكلة لما تبقى من أثر المكتبة الوطنية التي كان يؤويها المكان.
وعند التوغل أكثر في الفضاء تطالعك على يمينك لافتة خُط عليها “ذاكرة مكتبة” وتغمرك رائحة الكتب المسكرة وتدعو إلى السفر بين المئات منها، كتب عن الجغرافيا والتاريخ والأدب والدين والتراث وغيرها من المجالات.
وبعد أن تجوب الأنظار كل الرفوف تستعد لأن يكون “العالم بين يديك” عبر مخططات وخرائط وأطالس ترى عبرها تونس ومدنها وأريافها ومدنا أخرى إفريقية وأوروبية وأمريكية حتى أن عينيك قد تقعان على بقايا خريطة وضعت في إطار زجاجي لتبقى شاهدة على الجغرافيا والتاريخ.
باوو بوكس والكتاب، مكتبات حضرت بزادها في قشلة العطارين وغير بعيد عنهم فضاء لنواة وإصداراتها تبدأ من بعده رحلة في عوالم فنية مختلفة من خلال عدد من الأفلام من بينها فيلم نص الحوار (2012) للمخرجة الأرجنتينية غابرييلا غورديلا، تقرأ فتاتان بيان الحزن الشيوعي مع جدتهما وتسعيان إلى فهم تاريخ الصراع الطبقي والثورات الاجتماعية وتؤدي الجدة في هذا الفيلم والدة المخرجة التي كانت من ضمن مناضلات الحزب الشيوعي الأرجنتيني.
فيما يتطرق المخرج مانثيا دياوارا في فيلمه “أنجيلا ديفيس عالم من حرية عظيمة (2023) سيرة وعمل هذه الناشطة السياسية الأمريكية على شاكلة مجموعة شعرية حول الـتوجه النقدي لديفيس ونضالاتها من أجل علاقات مغايرة في عالم جديد بصدد التشكل.
غير بعيد عن فضاء عرض الفيلم الأول يقترح دياوارا على زوار القشلة فيلمين آخرين يحمل الأول عنوان “ادوارد غليسالت: عالم واحد مترابط” (2010)، والثاني عنوان “حوار بين سوبنكا وسنغور” (2015).
رحلة الأفلام متواصلة مع “كرود آي” لمنية القديري الذي تعرض فيه ذكرى من ذكريات طفولتها وتتمثل في مدينة ضخمة هي في الواقع مصفاة نفط ضخمة، ليعيد هذا العمل المتمثل في شريط فيديو إلى الأذهان مشاهد من الرسوم المتحركة وأفلام الخيال العلمي.
بعد السفر مع تفاصيل هذه الأفلام يدعوك الدرج إلى اكتشاف الطابق العلوي حيث تقدم المجموعة الموسيقية الهايتية “ذو ليفينغ آند داد” مشروعها الثاني بعنوان “الصحوة” (مشروع انطلق سنة 2021) وتركز فيه على ما يتيحه الليل من إمكانيات لتكوين وإنشاء حركات نضالية للشبان على ضفتي المحيط الأطلسي.
وبعد الغوص في هوامش العالم تدعوك الرباعية الكاملة لأفلام مروة أرسانيوس التي تشكل سلسلتها الحاملة لعنوان “من يخاف الإيديولوجيا؟” إلى اكتشافها عبر مقاربة تقوم على التعاون وتعدد التخصصات – بتحليل منظومة القمع والاستبداد الاقتصادي والاجتماعي القديمة المتجددة، واقتراح أساليب حياة بديلة تتناغم مع الطبيعة من خلال التجارب التي خاضتها النساء والنضالات ضد الاستعمار.
وبالعودة الى تاريخ قشلة العطارين، تسلط فريال دولان زواري، من خلال عملها أين تتوقف الطرق وأين تبدأ الكتابة؟ (2023)، الضوء على موقع هذا المعلم في قلب سوق العطارين مستخدمة الفخار والزجاج لإنشاء عناصر رسومية خطية تشبه الجذور التي تنبثق من الأرض في إحالة إلى النباتات العطرية التي تُستخرج منها العطور.
وفي إحدى الغرف العلوية لقشلة العطارين، تستكشف سُنية قلال في عملها الحامل لعنوان “غرزة سابقة – غرزة لاحقة” (2023) تاريخ مدرسة الاطارات من خلال عرض لأرشيف هذه المؤسسة الذي يشتمل على مستندات وصور علاوة على نتائج استقصاءات ميدانية أجرتها الفنانة، وتشهد على أهمية التعليم المبتكر الذي كانت تؤمنه هذه المؤسسة.
وديع المهيري سينوغراف البرزخ…
لم تكن قشلة العطارين لتتحول إلى برزخ يجمع بين الماضي والحاضر لولا جهود الفنان والسينوغراف وديع المهيري والفريق المصاحب وكل من تطوع لإضفاء لمسة خاصة في هذا القضاء على تهيئة المكان وإعادة نصب الرفوف وتنظيم الكتب المتوفرة حسب المواضيع وترصيف المجلات والخرائط كما تم أيضا رسكلة علب الأرشيف وتحويلها إلى مقاعد يستغلها الزائرون.
وفي هذا الصدد تحدث وديع المهيري لرياليتي أون لاين عن الحالة التي وجدت عليها قشلة العطارين قبل تهيئتها، قائلا ” المكان كان ملوثا ومهملا.. بعد التعقيم انطلقنا في ترتيب المكان وفرز الكتب لاستعادة جزء من المكتبة”.
وعبر نفض الغبار عن مئات الكتب التي تحدث الزمن وحافظت على أوراقها وحبرها بُعثت الحياة من حديد في المكتبة التي انضافت لها طاولات وكراسي لتكون مكانا ملائما للمراجعة كما تم حفظ خرائط ومخطوطات من العالم أجمع.
وفي معرض حديثه عن تهيئة الفضاء، أشار إلى أن المحافظة على الطابع القديم للمكان اختيار يندرج في إطار حفظ التراث والأثر وهو ما استدعى تدخل مختصين للمحافظة على خصائص المكان.