
بقلم : الدكتورة ربيعة ابن لطيفة *
كالشرنقة تحرّر وليدها والبيضة تلفظ فرخها، تتدفّق كائنات في الفضاء التشكيلي الذي اختارته الخزّافة التونسيّة إيناس الفيضة آداة للتعبير في خزفيّاتها خلال معرضها الشخصي الأوّل فتبدو لنا أعمالها من البداية كأنّها توالد ذاتي يخلق كائنات متعدّدة. افتتح المعرض يوم 9 فيفري 2024 ويتواصل إلى غاية 2 مارس بفضاء بئر الأحجار بمدينة تونس.
احتلّت الولادة والانبلاج والانبثاق الفضاء التشكيلي فتجسّدت في أشكال دائريّة وبيضويّة وقوقعات متكسّرة وكائنات أنشأتها أنامل الفنّانة الخزّافة، توحي كلّ الأعمال الفنيّة النافرة والغائرة والمعلّقة وكذلك التنصيبة بخروج كائنات من التقوقع اختارت لها الفنّانة الامتداد في الفضاء التشكيلي تارّة والانحصار في أشكال مغلقة طورا…
برعت أنامل الفنّانة إيناس الفيضة في تطويع مادّة الطين فحوّلتها إلى محاكاة لخامات متعدّدة ومختلفة المظهر والملمس، فنتبيّن العديد من المجسّمات خيّل لنا للوهلة الأولى أنّها خيوط من صوف كما ساعدها الطلي بالمينا على محاكاة الخشب والآجر وبعض المعادن كما اعتمدت على حقن الرغوة السائلة التي تحوّلت إلى مادّة صلبة وهو ما ساعدها في تشكيل أحجام ناتئة ونافرة ذات ملامس متعدّدة ومختلفة عن الطين الأملس…
في المقابل تقيّدت الفنّانة في كلّ الأعمال المعروضة بالخامة الترابيّة… وكأنّها تؤكّد لنا أنّها لم تغادر المواد العضويّة والكائنات العضويّة وتتمسّك بالطّبيعة…
تتمسّك الفنّانة بالطّبيعة فتبعث من عالمها الخزفي مركّبات عضويّة تتراءى لنا في شكل كائنات منها ما نألفه ومنها ما نتخيّله…تطالعنا كائنات مجهريّة وكائنات منويّة ولولبيّات كأنّها ديدان…وتحضرنا في ذلك نظريّة التوالد الذاتي، حيث تقول هذه النظريّات أنّ حبيبات الطين هي أنسب مكان لحدوث التفاعلات التي أدّت إلى نشأة كائنات صغيرة، وذلك لتوفّر العناصر التي تتكوّن منها هذه الكائنات… تفترض هذه النظريّات توافر مصادر طاقة وإشعاعات، ساعدت على حدوث التفاعلات التي أدّت إلى نشأة حياة هذه الكائنات الباكتيريّة، وقياسا على ذلك يمكننا أن نستنتج أنّ تفاعل أنامل الفنّانة إيناس الفيضة مع مادّتي الطّين والمينا ومع درجات الفرن الحراريّة قد ساهمت في ولادة كائنات خزفيّة طبعت هذه التجربة التشكيليّة…
تقوم أعمال الفنّانة إيناس الفيضة على مجموعة من العناصر أوّلها الترابط، حيث تتكامل كافّة مكوّنات العمل الفني لتحقّق مفهوم الولادة، وتحقق منظراً جماليّاً وصورةً إبداعيّة مرتبطة بمختلف تقنيات الخزف، فحين تزور إيناس في الورشة تجدها بين اللفافات الطينيّة تشكّل بها الأحجام وتقوم أيضا بتشكيل الطين بيديها لتبدع خيوطا منسابة تارّة ومتشابكة طورا. يتجلّى هذا الترابط في إنشائيّة كلّ جزء من أعمالها على حدا، وكذلك في قدرتها على ربط هذه العناصر ببعضها مهما اختلفت أشكالها.
من العناصر الأخرى التي بنيت وفقها أعمال الفنّانة إيناس الفيضة التوازن الذي يتجلّى بطرق مختلفة في أعمالها. حيث تعمد إلى ذلك في استعمال التضاد بين القيم الضوئيّة وبين الدرجات اللونيّة الفاتحة والدّاكنة… كما تعتمد التضاد بين الأشكال الهندسيّة المغلقة الحادّة متعدّدة الزّوايا والأحجام البيضويّة والدوائر وأنصاف الدوائر وتعتمد أيضا التضاد بين الخيوط اللولبيّة والمنسابة والليّنة والمتشابكة من جهة والخطوط المستقيمة والزوايا المنكسرة من جهة أخرى…
ولكنّ الخيار التشكيلي الأكثر بروزا في أعمال إيناس الفيضة منها ما سبق هذا المعرض الشخصي ومنها ما يتضمّنه هذا المعرض يكمن في ثنائيّة الشكل والخلفيّة فتبدو الأشكال والخطوط التي تؤثّث بها الفضاء التشكيلي كالمجرّات تسبح في الفضاء أو كالجزر السابحة في البحار…
وكأنّه الحنين السّاكن في داخلها لجزيرتها الأمّ جربة…ففي لوحاتها التي تعدّدت فيها مصادر الإلهام بين الخطّ العربي وألوان البحر وأمواجه التي أثّثت بها مجموعة من المعارض الجماعيّة وشاركت بها في مسابقات وطنيّة للفنون التشكيليّة أو في خزفيّاتها التي أثّثت هذا المعرض الشخصي، نلاحظ تأثير التركيبة الطبيعيّة لجزيرة الأحلام وخصوصيّاتها الحضاريّة المتميّزة بحرفيّ الخزف في شخصيّة الفنّانة التشكيليّة إيناس الفيضة فقد خصّصت جزءا كبيرا من أبحاثها الجامعيّة حول الخزف الذي هو أيضا مجال تخصّصها والمجال الذي تقدّم فيه دروسها الجامعيّة وتؤطّر حوله طلبتها…كما أنّ أعمالها طبعت بالطابع الجمالي للجزيرة السابحة في البحر فكانت كلّ الأشكال التي تقدّمها مهما تعدّدت التقنيات سابحة في فضاء تشكيلي يخلق تناغما فريدا بين الشكل والخلفيّة ويخلق كائنات تشكيليّة سابحة في رحم العمل الفنّي…
* أستاذة مساعدة بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس (جامعة تونس)