أجرى الحوار : محمد علي بن الصغيّر
ضمن فعاليات الدورة السادسة لتظاهرة “مسرح 100 كرسي” الذي ينظمه مسرح كورتينا من 15 الى 20 أفريل 2024 بالتعاون مع الجمعية المحلية للنهوض بالمعوقين والجمعية الفتية الاقتصادية بالقلعة الكبرى وتحت إشراف المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بسوسة، يلتئم الملتقى العلمي التكويني الثالث لتنمية قدرات أطفال حاملي الإعاقة. وقد اختار المشرفون على هذا الحدث الاجتماعي والثقافي الهام، ومن بينهم الأستاذ زهير بن تردايت، وهو جامعي ومخرج ومختص في مسرح الطفل، تخصيص هذه الدورة للأطفال المصابين بطيف التوحد من خلال تنمية قدراتهم باستخدام الفنون بجميع أنواعها.
ولعلّ المسرح هو أحد أهم هذه الفنون القادرة على فسح المجال أمام هذه الفئة المجتمعية ـــ التي أصبح عددها في ازدياد مطّرد بفعل العديد من العوامل ـــ حتى تعبر عما يختلج بداخلها من مشاعر مكبوتة وقدرات إبداعية هائلة قابلة “للانفجار” بمجرد أن يفتح أمامها المجال للتجلّي والظهور.
ويعتبر الفعل المسرحي حسب العديد من الأخصائيين والفاعلين في المجال أحد أهم وسائل الإدماج القادرة على تنمية التواصل والتفاعل الاجتماعي لأطفال التوحّد وكسر حاجز القطيعة مع محيطهم الخارجي الذي لطالما كان بينهم وبينه سدّا منيعا.
في هذا الحوار مع الدكتور زهير بن تردايت المتحصّل على الدكتورا في العلوم الثقافية، اختصاص مسرح وفنون وصاحب العديد من المقالات العلمية لعل أهمها “أيّ دور للتنشيط المسرحي في تطوير قدرات أطفال التوحّد؟” (2019) و “العجائبي في أمكنة الفعل الدرامي بين غايات إيهام المشاهد ومسارات إدماج طفل التوحّد، ” (2022)، صادرين عن مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهي مجلة علمية دولية محكمة تصدر عن مركز جيل البحث العلمي”، نتناول العديد من الجوانب في طرق العلاج التي تقدمها الدراما أو المسرح من أجل إدماج هذه الفئة المجتمعية داخل محيطها الطبيعي وتسهيل سبل التواصل معه وفك عزلته.
ماذا عن مشاركتكم في الملتقى العلمي التكويني لتنمية قدرات أطفال التوحد باستخدام الفنون المزمع تنظيمه أيام 17 و18 و19 أفريل بفضاء مسرح كورتينا بالقلعة الكبرى ؟
كنت قد قدمت مقترحا لتنظيم ملتقى علمي يهتم بعلاقة الفنون بذوي الإعاقة منذ سنوات عديدة للمبدع المسرحي محمد علي سعيد صاحب فضاء كورتينا بالقلعة الكبرى فوجدت ترحيبا كبيرا منه. وقد انطلقنا في تنظيم الدورة الأولى سنة 2018 والتي خصصناها للعلاج النفسي بالدراما ثم تلتها دورة خصصناها للإدماج الاجتماعي بالفنون في شراكة بين مسرح كورتينا والجمعية المحلية للنهوض بالمعوقين بالقلعة الكبرى وفرت لنا كل أسباب النجاح خاصة وأن الملتقى ينتظم في إطار مهرجان مسرحي عريق هو مهرجان “المائة كرسي”.
تقول في مقال علمي لك بعنوان “العجائبي في أمكنة الفعل الدرامي بين غايات إيهام المشاهد ومسارات إدماج طفل التوحّد” إنه “حين تنتقل التربية الحسيّة الحركيّة إلى فعل منتج داخل فضاءات متنوّعة لها أن تعبر بالطّفل (وتقصد هنا فعل التوحد بالتأكيد) من مخاوفه واضطراباته إلى تكيّف مع ما يحيط به”. كيف ذلك وهل ممكن تبسيط هذه الفكرة ؟
يحتاج الطفل حامل طيف التوحد كبقية الأطفال إلى التربية التي تلامس أحاسيسه وتستدعي التنشيط الحركي فهي نفسية جسدية حين يكون منهجنا الفعل، أي الانتقال من التلقي إلى بناء حركة أو فعل داخل فضاءات العرض المسرحي لنحقق هذه الغايات. ولأبسّط أكثر أضرب لكم مثلا: لدينا طفل يخشى صعود الدرج حين نجعله يلعب دور طباخ ـــ وهذه رغبته ـــ نطلب منه أن يصعد الدرج ليعبر الجسر وحين ينزل الدرج المقابل يجد مطعما وحرفاء بانتظاره ومساعدين يلبسونه منديل الطباخ وموسيقى حماسية… سيتغلب على مخاوفه ويصعد الدرج ويتعود على ذلك في حياته اليومية.
تعتبر في المقال ذاته ان “اعتماد أساليب التّدريس المباشرة قد تكون مفيدة لطفل التوحّد لكنّ استخدام اللّعب الدراميّ يمكن أن يكون أكثر فاعليّة”. لكن أليس التدريس المباشر هو فعل درامي بالأساس على اعتبار أن الطفل بصدد لعب دور الطرف الآخر في عملية التدريس ؟ أليست قدرته على التفاعل مع الدرس هي ترجمة لمدى اتقانه للدور كمتلقٍّ ؟
التلقي عملية سلبية. والتربية الحديثة، منذ ظهور حركة التربية العالمية الجديدة، تربية تعتمد المشاركة والنشاط. لذا ظهرت مصطلحات المدرسة النشيطة وهي التي تعتمد العمل الجماعي الخلاق والتي يغادر فيها التلميذ مقعده ليتحرك في شكل فرق تبني المعلومة معا واعتماد الدراما مسألة مفصلية فمَسْرحَة المواد تيسّر التعلّم لذا قال المربي والمؤلف الإنجليزي بيتر سليد “لم أجد مادة من المواد لا يمكن أن تدرّس بواسطة المسرح”. فنحن نحول المسائل الرياضية إلى تمثيليات مسرحية تجعل الدرس ممتعا وتفك ألغازه بعيدا عن الصرامة التي قد تنفّر التلميذ ويشعر بالعجز أمامها…
يحتاج الطفل حامل طيف التوحد كبقية الأطفال إلى التربية التي تلامس أحاسيسه وتستدعي التنشيط الحركي فهي نفسية جسدية حين يكون منهجنا الفعل أي الانتقال من التلقي إلى بناء حركة أو فعل
المسرح وسيلة لإدماج طفل التوحد ضمن المجموعة والخروج من الدائرة الضيقة التي تعزله عن العالم الخارجي. لكن ألا ترون أن هذا العالم الجديد أي المسرح أو الفضاء المسرحي هو مجرد امتداد للفضاء الأول المعزول بدوره عن العالم الخارجي (أي المجتمع) وبالتالي مجرد فضاء مغلق لكنه ربما أكثر اتساعا فحسب ؟
نعم، لكن بالتعرف على مواهب الطفل وصياغة لعبة مسرحية تجعله يمارس مواهبه ويبرز قدراته نحن ندخل بذلك معه إلى عالمه ثم نخرجه إلى عالمنا حين يشعر أن ما يفعله يجد تقديرا (تصفيق، إعلام، إعجاب…) من طرف الآخرين.
الأكيد أن درجات الاصابة بطيف التوحد تختلف من طفل الى آخر. ألا يقتضي هذا الأمر تعاملا مختلفا كذلك في عملية استخدام طرق المسرح العلاجي ؟
وهو كذلك فعلا. لذا فإن المرحلة الأولى دائما هي مرحلة استكشافية. إذ نقوم بتقديم مجموعة ألعاب تنشيطية مع الأطفال بهدف التعرّف على مواهبهم وقدراتهم. بعد ذلك نقدم لكل طفل ما يناسبه من أدوار. إنها البيداغوجيا الفارقيّة كما نعتمد أحيانا مشاريع إفرادية. المهم أن الملاحظة هي الطريقة الأنجع التي تسهل تدخلاتنا.
التلقي عملية سلبية والتربية الحديثة منذ ظهور حركة التربية العالمية الجديدة تربية تعتمد المشاركة والنشاط لذا ظهرت مصطلحات المدرسة النشيطة وهي التي تعتمد العمل الجماعي الخلاق
كيف يمكن لسلطة الإشراف التدخل لتكريس المسرح العلاجي التي تعتبرونها إحدى طرق تطوير مهارات ذوي طيف التوحد؟ أي استراتيجية أو أي تصور لترجمة هذا المشروع على أرض الواقع ؟
كم أتمنى أن يتواصل مختبر إرادة لمسرح الإدماج الذي أسسته منذ سنوات وتمكنت مع فريقي من مختصين نفسيين واجتماعيين ومربين مختصين وفنانين وغيرهم من تطوير قدرات عشرات الأطفال. ولِمَ لا يكون هناك مختبر في كل ولاية بالتنسيق بين وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن ووزارة الشؤون الثقافية ووزارة الشؤون الاجتماعية ومركز فنون درامية وجمعية تهتم بذوي الإعاقة ومؤسسات طفولة خاصة. وبإمكان وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن أن تقوم بالكثير في هذا المجال إذ يمكنها أن تشرف على تأسيس هذه المختبرات وتشبك مع بقية الأطراف.
يعتبر الدكتور زهير بن تردايت، الأستاذ ورئيس قسم التربية بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بمدنين، أحد أهم المختصين في مجال إدماج الأطفال المصابين بطيف التوحد، حيث تحصل سنة 2023 على الجائزة الوطنية لحقوق الطفل عن سنة 2021 التي تخصصها وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن وذلك عن مشروع "إدماج الأطفال ذوي طيف التوحد". وهو مشروع يندرج ضمن "مختبر إرادة لمسرح الإدماج" الذي تم إطلاقه بجربة في شهر جوان 2023 من خلال تجربة تقوم على انجاز عمل مسرحي بمشاركة 14 طفلا نصفهم من ذوي الاحتياجات الخصوصية. وقد نجح زهير بن تردايت الذي يعتبر مسرحيا متكاملا وهو الكاتب والمخرج والممثل والناقد والأستاذ في مراكمة تجارب عديدة في هذا المجال من خلال المشاركة وتنظيم العديد من الملتقيات ذات الاختصاص. وقد تم سنة 2020 انتاج فيلم قصير عنوانه "كيف للمسرح أن يغيّر المجتمع" من إخراج آمنه الشعبوني حيث تقوم فكرته على تجربة زهير بن تردايت في إدماج الأطفال من ذوي الاحتياجات الخصوصيّة. كتب زهير بن تردايت وأخرج العشرات من النصوص المسرحية التي فازت بجوائز في مهرجانات وطنية وجهوية كما أنه تولى إدارة العديد من المهرجانات لعل أهمها مهرجان علي بن عياد للمسرح (2018) ومهرجان مسرح التجريب بمدنين ومهرجان التراث بالرياض جربة.