فيما تمارس التغيرات المناخية في السنوات الأخيرة تكتيكاتها المباغتة وتتنقل بين كل الفصول في اليوم ذاته حتى تستقر على قيظ ألقت فيه الشمس تعويذات اخترقت الرؤوس وألهبت الأدمغة، كانت زيارة الصحفيين إلى الأكاديمية العسكرية بفندق الجديد بتنظيم من وزارة الدفاع ملاذا.
في هذا الفضاء الرمزي الذي تخال أنه لامتناه لامتداده في الزمان والمكان، تروي كل التفاصيل تاريخ مكان يحمل الذاكرة إلى فترة الاستعمار حيث يعتقل في جزء منه المقاومون ويعدمون، تفاصيل موشحة بملاحم الحرية.
الأعلام التي لا تتوقف عن الرفرفة وكقلب نابض بالحرية، والشعارات التي لا بوصلة لها سوى الوطن، ونصب الشهداء.. بعض من المشهدية الزاخرة بالحكايات في الأكاديمية التي تأسر من يمضي في دروبها وتغويه بالعودة إليها مجددا.
اللوحة المفعمة بزخم الحياة والتي يقف عندها الموت خاشعا لعقيدة شهداء بذلوا أرواحهم من أجل الوطن، تحملك إلى دروب أخرى في أم المدارس العسكرية التي تتمثل مهمتها الأساسية في تكوين ضباط لفائدة وزارة الدفاع الوطني في المجالات العسكرية والتقنية والاختصاصات المتصلة بالدفاع، ولفائدة الهياكل والمؤسسات الوطنية والأجنبية في إطار التعاون وبمقتضى اتفاقيات مع سلطة الإشراف.
ويشمل التكوين بالأكاديمية العسكرية المسار الهندسي ومسار العلوم العسكرية ومسار العلوم القانونية والتصرف، مع العلم أن الانتداب من الباكالوريا من مشمولات إدارة التعليم العالي العسكري والبحث العلمي.
اختراعات دفاعية وصحية..
ولا يمكن الحديث عن التكوين دون الحديث عن الابتكارات في أم المدارس العسكرية، من ذلك محاكي الرمي بالأسلحة الفردية الذي أوجده خريجون وتقنيون أبناء الأكاديمية والذي يوفر ميادين حقيقية ويحاكي سيناريو الرمي العملياتي ويعزز سرعة رد الفعل ودقة الرمي كما يعد موفرا على مستوى الوقت والإمكانيات المادية.
في أم المدارس أيضا، تمثل مشاريع ختم الدروس اكتشافات ملهمة تعكس فلسفة الأكاديمية العسكرية التي لا بوصلة للمنتمبن إليها إلا تونس ورايتها ولا هدف لهم سوى حمايتها برا وبحرا وجوا، من ذلك وسيلة لحماية المنشآت من الانفجارات من خلال تقوية الخرسانات بالألياف مما يزيد في طاقة تحملها وتقلص الخسائر إلى نسبة 65 %.
ومن بين الاختراعات الأخرى وسيلة للتصدي للطائرات دون طيار من خلال استثمار الطاقة الكهرو مغناطيسية في صنع محلي بمدة حياة طويلة أثبتها نموذج متطور وناجع، الى جانب استعمالها أيضا في مشروع لدفع المقذوفات لتطوير طرق التدريس عوض طريقة احتراق البارود الكلاسيكية.
ومشاريع ختم الدروس تهتم أيضا بتثمين الفضلات البلاستيكية من خلال تعويض الإسمنت بتذويب البلاستيك. والتجارب أثبتت أن هذه التقنية تخلف أقل كمية من ثاني أكسيد الكربون الملوث للمحيط.
وفي مواجهة التهديدات الإرهابية، اهتم أحد المشاريع بتقوية الخرسانة من خلال العمل على تعزيز مواد متجددة على غرار “الظلف” ومعالجتها بمادتي “الزفت” والجير” وقد أثبتت
التجارب الميكانيكية مقاومتها للضغط وعزلها للصوت وللبرودة.
وإلى جانب المجال العسكري الدفاعي تهتم مشاريع التخرج بالمجال الصحي، من ذلك التركيز على المشاكل التي قد ترافق عملية تحليل الدم كهامش الخطأ والمسار الطويل الذي يزيد في ساعات عمل الطبيب ليتم استثمار الذكاء الاصطناعي ليتم تصوير عينة الدم بالمجهر وقراءتها وتحديد نوعية المرض وتتم الآن التجربة بالنسبة إلى عديد الأمراض.
وبما أن الحاجة أم الاختراع فإن أزمة الكورونا التي عاش على وقعها العالم عموما وتونس على جه الخصوص وجعلت من مكثف الاوكسيجين ضرورة حياتية دفعت إلى ابتكار هذا الجهاز لتعويض النقص والنهوض بقدراتنا الذاتية في الصناعة وتم الوصول إلى نتيجة جيدة.
ومن الضروري الإشارة إلى أن العمل جار على تسجيل براءات الاختراع الخاصة بالأكاديمية العسكرية بفندق الجديد وملكيتها الفكرية، وفق ما أفاد به آمر الأكاديمية العميد شهاب خليفة.
فتاتان تكسران ذكورية “اللّحامة”
من الأكاديمية العسكرية كانت الوجهة إلى الإدارة العامة للمعدات الدارجة والوقود حيث ينتصب المركز العسكري للتكوين المهني الذي تحصل مع بداية شهر ماي الجاري، على شهادة المطابقة للمواصفات “إيزو 21001″.
بشهادة الجودة هذه يكون أول مركز عسكري للتكوين المهني في تونس وأول مؤسسة تكوين عسكرية في الجيش التونسي يتحصل على هذه الشهادة، وفق ما أفاد به المقدم بالبحرية عبد السلام بن عبد الله.
في المركز يشدك الطابع الخاص للمكان. فرغم ما يرافق بعض الاختصاصات من صعوبات وتعقيدات وبعض الصخب أحيانا يتخذ المركز العسكري للتكوين المهني بعدا شاعريا جماليا شكلته المساحات الخضراء والنباتات العطرية والورود المختلفة.
وفيما تأسر الروائح العطرة وتقلص من لهب الشمس تسمع الأزيز المرافق لمعانقة الحديد للحديد في ورشة اللحامة حيث تشكل شظايا النار لوحة فنية تتحكم في تفاصيلها يد المتكون الذي يحمي وجهه بقناع ويديه بقفازين.
موسيقى وشذرات من النور تملأ الأرجاء لوهلة من الزمن قبل أن ترفع المتكونة قناعها، إنها فتاة اختارت مهنة اللحامة التي اقترنت في المخيال الجمعي بالذكور وشقت لنفسها طريقا مختلفة لفتت إليها الأنظار.
آية اليحياوي فتاة تبلغ من العمر عشرين ربيعا لم تستهوها الاختصاصات الأربعة والستون الأخرى التي تتيحها المراكز العسكرية للتكوين المهني واختارت اختصاصا قد يبدو للبعض صعبا بالنسبة للفتيات.
ولكن مع رؤية آية وزميلتها وهما تضربان الحديد وهو ساخن تنكسر ذكورية مهنة اللحامة وتجد إليها الإناث طريقهن خاصة وأنهن اخترنها عن قناعة ووجدن فيها تفاصيل تروي شغفهن وتلبي الفرادة التي يبحثن عنها.
بكلمات بسيطة ولكنها مفعمة بالمعاني تعبر آية عن سعادتها باختيارها الذي يجعلها خارج صندوق قوالب السكر المتشابهة، فرحةً فرح الأطفال تحدثت عن محاولتها كسر نمطية بعض المهن على غرار اللحامة.
واقتحام الفتيات لهذا التكوين الذي كان في فترة ما حكرا على الفتيان جعلهن يتميزن فيه ويتركن بصمة وأثرا لدى المكونين وهو ما أكده المقدم عبد السلام بن عبد الله الذي قال إن البنات اللائي يمررن بهذه الورشات يبرهنّ دائما على تميزهن.
ومن آثار تميز الفتيات غيتارة من الحديد أوجدتها أنامل “ثريا”، متدربة مدنية بالمركز العسكري للتكوين المهني على غرار آية وزميلتها، غيتارة تشدك إليها لدقة صنعها ورهافة تفاصيلها حتى تكاد تسمع منها صوت الموسيقى وصانعتها تجمع بين الحديد والحديد.
عن التكوين المهني العسكري..
في مركز التكوين المهني العسكري اختصاصات أخرى من قبيل المطال والدهان وميكانيك وكهرباء السيارات والصناعة الميكانيكية وغيرها وهي موجهة للمدنيين في إطار التكوين المهني وللعسكريين في إطار التكوين المستمر.
برنامج التدريب المهني بمختلف الورشات والمصالح التقنية التابعة للجيش الوطني انطلق عام 1965، وعام 1996 تم بعث برنامج التكوين المهني لفائدة المجندين، وإحداث 4 مراكز عسكرية لتكوين المهني بولايات بنزرت ونابل، ومنوبة، وقابس.
وعام 2001 انطلق برنامج تأهيل حاملي الشهادات العليا خلال أداء الواجب الوطني أو كمدنيين في إطار تربصات الإعداد للحياة المهنية قبل أن يتم فسح المجال للمدنيين ذكورا وإناثا لمتابعة برامج التكوين المهني بالجيش عام 2004.
والتكوين المهني العسكري يساهم في المجهود الوطني لتطوير الموارد البشرية ودعم طاقة التشغيل من خلال تمكين الشبان والشابات من كسب خبرات ومهارات في اختصاصات تؤهلهم للاندماج في سوق الشغل.
وفي ما يخص برامج التكوين يتم التنسيق مع الهياكل الراجعة بالنظر لوزارة التكوين المهني والتشغيل ويوفر المركز شهادة المؤهل التقني المهني (BTP) وتخص مستوى السنة الثانية ثانوي منهاة ومدة التكوين فيها سنتان.
كما يوفر شهادة الكفاءة المهنية (CAP) وتخص مستوى السنة التاسعة أساسي منهاة ومدة التكوين سنة، أما شهادة المهارة “cc” فتهم مستوى دون التاسعة أساسيا ومدة التكوين 9 أشهر، فيما تهم شهادة انتهاء التدريب المهني “CFAP” مستوى السنة السادسة أساسيامنهاة ومدة التكوين فيها سنتان.
وفي ما يتعلق بالمشاريع والآفاق المستقبلية للتكوين المهني العسكري فمن المنتظر انطلاق التكوين بمؤسسة التكوين المهني في الغوص بجرجيس في سنة 2024 وانطلاق التكوين بالمركز العسكري للتكوين المهني بسيدي بوزيد في سنة 2025.
كما تشمل إنجاز الملف التقني وتحديد مختلف مكونات مشروع إنجاز المركز العسكري للتكوين المهني بخليج الشعرة ببنزرت والترفيع في طاقة الإستيعاب والإيواء بالمراكز العسكرية للتكوين المهني إلى جانب إحداث اختصاصات جديدة ببعض المراكز تماشيا مع متطلبات سوق الشغل.
وتهدف أيضا إلى الانخراط في مشروع وزارة التشغيل والتكوين المهني حول تأهيل مؤسسات التكوين المهني، مع العلم وأنه قد تم تركيز وحدة لتصليح وحدة التحكم في المحركات الالكترونية وصيانتها بفندق الجديد إلى جانب تركيز مخبر خاص للسيارات الكهربائية والهجينة.