من منا لم يتبادر إلى مسمعه كلمات ذات دلالة سلبية في علاقة بأداء الخدمة الوطنية في ترجمة لترسبات في علاقة بـ”عام الجيش” الذي يساوي البعض بينه وبين “السجن”؟
وإن كان في أداء الخدمة الوطنية إحالة مباشرة إلى الوطنية وحب الوطن إلا أن العزوف عنه لا يعني عكس ذلك على ما يحمله من انعكاسات سلبية في علاقة بجيش الاحتياط.
وفي السنوات الأخيرة عرف الإقبال على الخدمة الوطنية تراجعا ملحوظا في علاقة بالتقدم الطوعي للتجنيد وهو ما يطرح عدة إشكاليات تعود إلى أسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية واجتماعية.
وفي المخيال الجمعي يرتبط التجنيد بالحزم والانضباط الشديدين وما يحتمانه من حد للحرية من ناحية، وضياع فرص لتحسين مستوى العيش من ناحية أخرى، ناهيك عن الحرمان من حضن العائلة.
ولا يمكن الحديث عن أي تصور جديد لعملية التجنيد دون العمل على تغيير العقلية المثقلة برواسب عقود من الزمن ترسخت فيها “سلبية” الخدمة الوطنية حتى أنه لا يتم اسحضارها في مجالس بعض المجالس إلا للترهيب.
وحينما يريد البعض حث أبنائهم أو أحفادهم على الرضا بمأكل أو مشرب أو ملبس يذكرونهم بما ذاقوا من قسوة في سنة الخدمة الوطنية وهو ما رسخ صورة سلبية عن التجنيد ونفر الشباب منه.
هذه الصورة السلبية تغذت من الواقع الراهن وارتوت من التطورات التي شهدها المجتمع التونسي ولكنها لم تلامس التشريع الجاري به العمل وهو ما يفسر حرص وزارة الدفاع الوطني على وضع تصور جديد للخدمة الوطنية.
وهذا التصور الذي من المنتظر أن تتم ترجمته إلى قانون جديد خاص بالخدمة العسكرية يعوض قانون سنة 2004، يجب أن يكون مرفوقا باستراتيجية اتصالية تخاطب “جماهير” الشباب المستهدفين وتشجعهم على التقدم الطوعي للخدمة العسكرية.
فرغم الإجراءات الردعية التي تلاحق المتخلفين عن أداء الخدمة الوطنية، ورغم الدعوات إلى تسوية الوضعية إلا أن هناك حاجزا لم يتم اختراقه بعد ومخاطبة الشباب بما يفقهون خاصة في ظل التطور التكنولوجي الجنوني.
ويبدو أن الومضات التي تمررها وسائل الإعلام لدعوة الشباب إلى حصص التجنيد لم تعد تؤتي أكلها وهو ما يحتم ضرورة بلورتها من جديد وفق خطة اتصالية تتشابك فيها كل الأطراف المتداخلة.
وإن تزامنت حصة التجنيد الأولى لسنة 2024 في شهر مارس الماضي مع شهر رمضان فإن ذلك لا يبرر عدد الشباب (294) الذين تقدموا طوعا وهي نسبة قليلة مقارنة بالإحصاءات الخاصة بالشباب في سن الخدمة القانونية.
ويوم الإثنين 03 جوان انطلقت حصة التجنيد الثانية، مع العلم وأنه يتم التجنيد للخدمة العسكرية المباشرة خلال 4 حصص (مارس، جوان، سبتمبر ديسمبر )، والهدف من ذلك إعداد المواطن للدفاع عن حوزة الوطن والمشاركة في التنمية الشاملة للبلاد والمساهمة في نشر السلم في العالم.
كل مواطن بلغ من العمر 20 سنة يتقدم تلقائيا لأداء الخدمة الوطنية، ويبقى ملزما بأدائها إلى حين بلوغه سن 35، وهو ما تجسد في مركز التعبئة والتجنيد ببوشوشة حيث واكبت رياليتي أون لاين مراحل عملية التجنيد من الاستقبال والتعريف حتى الإكساء وانتظار الالتحاق بمراكز التدريب.
إذا كان الشاب المتقدم للخدمة العسكرية مؤهلا أمنيا يخضع للفحص الطبي والمعاينة النفسية وإن كان صالحا طبيا يمر عبر خلية الفرز والتوجيه وخلية إنجاز وثائق التجنيد وصولا إلى خلية الإكساء والتسيير ومنها إلى مركز التدريب، علما وأن المتقدمين للتجنيد قد يكونون غير مؤهلين للخدمة العسكرية سواء لأسباب صحية أو أمنية.
وحصة التجنيد الثانية تتواصل إلى يوم 5 جويلية المقبل والشبان مواليد الثلاثية الثانية من سنة 2004 ومواليد السنوات السابقة الذين لم يقوموا بتسوية وضعياتهم إزاء قانون الخدمة الوطنية، مدعوون للتقدم تلقائيا إلى المراكز الجهوية للتجنيد والتعبئة بمدن تونس وسوسة وباجة وقابس والقصرين، مصحوبين ببطاقة التعريف الوطنية.
وفي مركز التجنيد والتعبئة بتونس التقت رياليتي أون لاين شابين من بنزرت وزغوان قدما تلقائيا للالتحاق بمراكز التدريب في إطار الخدمة الوطنية، انقطعا عن الدراسة في السنة التاسعة من التعليم الأساسي، أحدهما التحق بمركز تكوين مهني عسكري ومن هناك ترسخت فكرة الالتحاق بالخدمة الوطنية في ذهنه، أما الآخر فتجذبه عوالم المؤسسة العسكرية ويرغب في أن يخوض تجربة الخدمة العسكرية.
تجاذب الحديث مع الشابين اللذين استهوتهما الخدمة الوطنية يرسخ أهمية شهادتيهما ورسائلهما التي تمحو بعضا من أثر العزوف، في الحث على الخدمة الوطنية إذ يعتبران الأمر واجبا مقدسا من منطلق إيمان تجلى في أعينهما لا من باب ترديد الشعارات.
واقع الخدمة الوطنية في تونس
الخدمة الوطنية تعبير على الولاء للوطن وهي من بعض مؤشرات الوطنية التي تعتبر سلاح ردع إستراتيجيا للأطراف المناوئة، كما أنها المُزوّد الأساسي لجيش الاحتياط وهو قوة عسكرية متكونة من مواطنين مدنيين مدربين تدريبا عسكريا نظاميا ويتحولون وقت الحاجة إلى عسكريين.
وقد عرفت تونس فترات تمت فيها دعوة المجندين في مهام تتعلق بحفظ النظام (تعبئة جزئية سنة 2011)، وتأمين الانتخابات (تعبئة جزئية سنة 2014) وهو ما يحيل إلى أهمية التجنيد ويدفع إلى المزيد من التفكير في سبل لجذب الشباب لأداء الخدمة العسكرية.
ولا تخلو الخدمة العسكرية المباشرة من امتيازات على غرار التكوين العسكري والتمتع بالأولوية في الإنتداب في مناظرات المدارس العسكرية والتمتع بالتنفيل في العمر عند الإنتداب (24 سنة عوضا عن 23 سنة.
ومن الامتيازات أيضا، التمتع بالأولوية في الوظيفة العمومية، وإمكانية متابعة تكوين مهني أثناء أداء الواجب، والإعداد للإندماج في الحياة المدنية عبر القيام بتربصات مشفوعة بشهائد في الورشات التقنية في اختصاصات عديدة، والتمتع بمنحة شهرية ومجانية النقل والعلاج والأكل واللباس.
ولكن يبدو أن هذه الامتيازات لم تعد تجاري الراهن وهو ما يفسر حرص وزارة الدفاع الوطني على تعزيزها وتدعيمها إلى جانب الانشغال بالرقمنة وخاصة المعرف الوحيد التي من شأنها أن تمكن من إحصاء المواطنين المعنيين بالخدمة العسكرية.
وفيما يعرف الإقبال على التجنيد تراجعا تعتبر تجربة تجنيد الإطارات الطبية وشبه الطبية ناجحة في تونس خاصة في فترة الكورونا وهي متواصلة، وهو ما يفتح آفاقا أمام تجنيد أصحاب الشهائد العليا في اختصاصات مختلفة.
ومن جهتها تسعى وزارة الدفاع الوطني إلى تحفيز الشباب على التقدم الطوعي للخدمة العسكرية أو تسوية وضعيتهم بالأشكال القانونية المتاحة سواء بالتأجيل أو تقديم سبب للإعفاء من خلال مراعاة عامل القرب الجغرافي في توجيه المجندين إلى الوحدات العسكرية.
وفي إطار الإتفاقيات الثنائية في مجال الخدمة الوطنية المبرمة مع فرنسا (1982) والجزائر (1996) وتركيا (2000)، يمكن لمزدوجي الجنسية تسوية وضعيتهم بأحد البلدين حسب اختيارهم، مع ضرورة إعلام البلد الثاني بتسوية الوضعية.
التصور الجديد للخدمة الوطنية
بعد أن تحول عزوف الشباب عن أداء الخدمة الوطنية إلى ظاهرة تسعى وزارة الدفاع الوطني إلى بلورة تصور جديد للتجنيد يتماشى مع الواقع الإقتصادي والاجتماعي للبلاد، ويراعي التغيرات المجتمعية ويستحدث أشكالا جديدة للخدمة الوطنية.
وضمن استراتيجيتها 2021 – 2030، تعمل وزارة الدفاع على تطوير منظومة الخدمة الوطنية ومراجعة الإطار القانوني المتعلق بالخدمة الوطنية وتطوير آليات الخدمة الوطنية وإرساء آليات جديدة لتحفيز الشباب على أداء واجب الخدمة الوطنية.
وتتسم الخدمة الوطنية، وفق التصور الجديد، بالقرب والجوار أي الخدمة قرب مقر الإقامة، والتعدد أي تعدد صيغ وأشكال تأدية الخدمة الوطنية، والمرونة من خلال ختيار نوعية الخدمة وتبسيط الإجراءات الإدارية والرقمنة والتشاركية بمعنى تشريك كافة هياكل الدولة وتشمل الخدمة العسكرية، وفق التصور الجديد الخدمة بوحدات القوات المسلحة العسكرية (خدمة عسكرية مباشرة)، والخدمة خارج وحدات القوات المسلحة العسكرية (خدمة خصوصية وخدمة وطنية مدنية والتي يمكن أن تكون خدمة لدى القوات الحاملة للسلاح).
وأما الخدمة العسكرية المباشرة فتهدف آلى تنمية روح المواطنة لدى الشباب، وتحقيق المساواة بين التونسيين، وتسديد حاجيات وزارة الدفاع الوطني من المجندين، وتشجيع التونسيين على أداء الواجب، وتكوين الشباب مهنيا وصقل مواهبهم، والرفع من مستوى وجودة التكوين، وتثمين الشهائد ومن امتيازاتها تخصيص نسبة قارة من الإنتدابات السنوية وتفعيل آلية الإدماج، والترفيع في قيمة المنحة الشهرية المسندة للمجندين وفق 03 أصناف دون شهادة، له شهادة (3+BAC) ، له شهادة عليا (ماجستير فما فوق)، والحرص قدر الإمكان على تعيين المجندين بالوحدات القريبة من مقرات إقامتهم، والحصول على شهائد وطنية في الإسعافات الأولية الوقاية من الحرائق البحث والإنقاذ بصفة مجانية والأولوية في متابعة تكوين مهني بعد أداء الواجب.
وأما الخدمة الخصوصية فتهدف إلى دفع التونسيين على الإقبال لأداء الواجب، وتسوية الوضعية، ودعم صندوق الخدمة الوطنية تشجيع الشباب على بعث المشاريع بما يحقق التنمية الشاملة.
وهذه الخدمة موجهة لجميع التونسيين داخل وخارج البلاد الذين حالت وضعياتهم المهنية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية دون القدرة على أداء الواجب الوطني وفقا للصيغ الأخرى، ومن امتيازاتها سهولة تسوية الوضعية في أقصر وقت، والتفرغ للإلتزامات الإجتماعية والمهنية والتنفيل في السن عند الإنتداب والأقدمية في التقاعد.
وأما الخدمة الوطنية المدنية فهي شكل من الخدمة الوطنية موجهة لجميع التونسيين بدرجة أولى فئة أعوان التنفيذ وبدرجة ثانية أصحاب الشهائد العليا والتقنية، وتؤدّى لدى الوزارات والهياكل العمومية أو الجماعات المحلية العمومية، وتهدف إلى دعم مجهود التنمية.
وتتجلى هذه الخدمة في تجربة تجنيد الإطارات الطبية وشبه الطبية التي عرفت تصاعدا من 274 إطارا مجندا سنة 2019 إلى 1737 مجندا سنة 2022، ويرجع هذا الارتفاع إلى تجربة كورونا لكنه يؤكد نجاعة الخدمة المدنية.
والخدمة الوطنية المدنية تهدف إلى تكوين نواة جيش إحتياط لوجستي، وتعزيز هياكل الدولة بالموارد البشرية الضرورية لسد الشغورات، وتجسيد إستراتيجية وزارة الدفاع الوطني 2021 – 2030، تعزيز روح المواطنة، وتوفير فرص للتدريب والتطوير المهني و مزيد تثمين الشهائد.
وفي انتظار التوجه إلى تجنيد النساء في تونس والإعداد للأمر جيدا لما يطرحه من تحديات على المستوى اللوجستي والمجتمعي، يبقى حرص وزارة الدفاع الوطني على سد الفجوة بين المؤسسة العسكرية والشباب العازف عن أداء الخدمة الوطنية بداية لمرحلة جديدة.