احتفاء بالمؤلَّف الأخير “في الوصل بين الضفاف” للأستاذ الجامعي وعضو قسم الدراسات الاسلامية بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، الدكتور توفيق بن عامر، نظمت جمعية راجح ابراهيم للبحوث والدراسات بالشراكة مع دار الثقافة وجمعية المواطنة بأكودة، مساء هذا السبت 22 جوان بقصر بلدية المكان، لقاء فكريا دعت له بالاضافة الى مثقفي ونشطاء المجتمع المدني بالجهة، أكاديميّين من الجامعة التونسية في مجال الاختصاص.
أمام حضور مكثّف خصوصا من الجيل القديم من رجال تربية وفكر وثقافة وفاعلين في مختلف الجمعيات في مدينة أكودة أو من المدن المجاورة لها خصوصا القلعة الكبرى، مسقط رأس ضيف هذا اللقاء ومدينته التي لا يفارقها حتى يعود لها على قدر عظيم من الشوق رغم التزاماته اللامتناهية في العاصمة، انبرى توفيق بن عامر ليقدم مؤَلّفَه بسلاسة و بأريحية لامتناهية.
تدبُّر في الثنائيات
اعتبر الدكتور توفيق بن عامر صاحب “الوصل بين الضفاف” أن هذا الكتاب الصادر عن دار الأمينة للنشر والتوزيع هو “تدبر لبعض الثنائيات المتعددة في اختصاصات مختلفة كالأدب والفكر والتاريخ والحضارة وهو ما خلق تنوّعا كبيرا”. وعن اختيار هذا العنوان تحديدا يقول توفيق بن عامر إن صورة النهر كانت مُلهِمة له في هذا الاختيار حيث أن “المعرفة هي نهر غير مستقر ومسترسل في الزمان والمكان وهو نهر أساسه ضفتان وكذا حقيقة المعرفة التي لا يمكن لها أن تُدرَكَ من ضفّة واحدة”. وعلى ذلك يرى مؤسس الجمعية التونسية للدراسات الصوفية ورئيسها أن على “من يريد تدبّر الحقيقة أن ينظر للضفة الأخرى وأن يبني جسرا للوصل بين الضفتين. لان من يمتطي هذا الجسر سيكون قادرا على مشاهدة الضفتين معا “.

الدكتور توفيق بن عامر
ففي هذا الكتاب، كما يقول مؤلّفه في توطئته “تنويه بالوصل بين دروب المعرفة وتفاد للقطيعة بينها وإشارة بالضفاف الو وجهات نظر معرفية مختلفة… فالغاية من الوصل هي العمل على مد الجسور بين تلك الزوايا من النظر المتنوّعة عبر منهد يروم رصد العلاقات المخترقة للحدود والوقوف على ما بينها من تفاعل قد لا تدركه الأبصار ولكن تعيه البصائر”.
وعن الآليات التي اعتمدها توفيق بن عامر في انشاء هذا الجسر الذي أشار إليه آنفا حتى يسهل للقارئ التمعن والتدبر في المسائل المطروحة من الجانبين، أكّد المحاضر أنه استند إلى ثلاث مقاربات أساسية وهي المقارنة والنقد والتأويل. فهذه المناهج تفرض نفسها ضرورة ملحّة حتى تتجلى “الحقيقة في أكمل صورها تقريبا وغير منقوصة رغم أن الحقيقة تبقى دائما ضالة نبحث عنها حيث لا يدّعي الكتاب أنه يقدّم نتائج ثابتة أو عاكسة للحقيقة التي تبقى في النهاية نسبية”.
في مناقِب المُؤلِّف…
كانت مقاربة الدكتور منصف بن عبد الجليل، أستاذ الحضارة في الجامعة التونسية والعميد السابق لكلية الٱداب والعلوم الإنسانية بسوسة، في تناول هذا الكتاب متفرّدة نسبيا حيث احتفى بالكتاب من خلال تعداد مناقب مؤلّفِه وخصاله حيث اعتبر أن الدكتور بن عامر ” يتميّز بملامح تُعَدّ أساسية لمن يروم نيل صفة الأكاديمي الجيد ذلك أن بن عامر، أحد المختصين في الفكر الإسلامي الكلاسيكي وصاحب المؤلفات المختصّة في الفترة التكوينية أو فترة الفكر الإسلامي التكوينية، يعتبر باحثا جادا وصارم الدقة العلمية”.

الدكتور منصف بن عبد الجليل
كما يرى بن عبد الجليل الذي شغل منصب مستشار لدى كلّ من وزيري التربية والتعليم العالي في التسعينات، أن مؤلِّفَ الكتاب قد “انكبَّ بالتحقيق والدراسة الى حد يشارف الشمول رغم صعوبة المتن ودقة الموضوع واستعصاء الفهم على الكثير من الدارسين في ما يتعلق بدراسة الثقافة العربية الاسلامية المبكرة “. ولعلّ انكباب الكاتب توفيق بن عامر على التدبّر في مسألة التصوف التي تعتبر “متنا صعب المراس وصعب الدراسة” وتخصصه فيها يجعل منه على حد قول منصف عبد الجليل “أستاذ التصوف والدراسات الصوفية في الجامعة التونسية الذي أطّر العديد من الأطروحات”. الأمر الذي حدا بهذا الأخير إلى أن يُفرِدَ الاستاذ بن عامر بمقالة علمية حول تدريس الحضارة العربية والاسلامية بالجامعة التونسية منذ التأسيس الى اليوم ستصدر ضمن مُؤَلّفٍ جماعي صادر عن جامعة منوبة احتفاء بذكرى تأسيسها وذلك “تنصيصا على اختصاصه الدقيق وأثره في طلبة الماجستير والدكتوراه والبحوث حول مسألة التصوف”. وهذه المسألة نجح الدكتور بن عامر بحسب المُحاضِر في إخراجها من معاقل الجامعة كشأن اختصاص ديني معمّق و تحويلها الى “تجربة روحية يمكن أن تُدرَس من جوانب مختلفة خصوصا الأنثروبولوجي” خصوصا من خلال تأسيس الجمعية التونسية للدراسات الصوفية التي تحتفل هذه الأيام بالذكرى العاشرة لبعثها.
من جانب آخر، اعتبر الدكتور منصف بن عبد الجليل أن كتاب “الوصل بين الضفاف” الذي يصنّفه في خانة الدراسات والبحوث الأكاديمية في مجال الفكر العربي والحضارة الإسلامية ” هو بمثابة “التتويج للأعمال السابقة” وللمرحلة العلمية والفكرية والثقافية التي بلغها الكاتب. كما اعتبر عبد الجليل في أن كتاب “الوصل بين الضفاف” عبر محاوره الأربعة (في الأدب والنقد، الفكر النقدي، في الفكر والمعتقد وفي الحضارة والتاريخ) يطرح اشكالية أساسية وهي “الاتصال بين ضفاف المعارف”. وعلى ذلك يرى المحاضر أن “ضفاف المعرفة هي صيغ المجالات الفكرية والمعرفية المختلفة التي ليس بينها انقطاع على حد قول المؤلف”. وهو إقرار يفضي الى “أن الفكر الذي ينتج هذه المعارف إنما هو نفسه ولا يمكن للفكر أن يكون منتجا للعلوم دون أن يكون منتجا لمعارف أخرى تدخل في ما نسميه اليوم الفنون أو الانسانيات”. ويضيف المحاضر في هذا السياق أنه “ما دام الفكر المُحدِثُ للمعارف مركزيا في النظر و الإبداع والإنشاء فإن المعارف المختلفة والمتعددة التي ننشئها ذات صلة بعضها ببعض”.
ضرورة النظرة الشمولية
من جانبه اعتبر الدكتور عبد الجليل سالم، رئيس جامعة الزيتونة سابقا، أن “الوصل بين الضفاف” هو “كتاب عاكس لشخصية مؤلِّفه توفيق بن عامر، المثقف والجامعي والأكاديمي”. ذلك أن محتوى الكتاب بمقالاته الأحد عشر يعكس ” جِماع فكر المؤلف وجِماع تكوينه ويكشف اهتمامه بالحضارة العربية الاسلامية في قرونها الخمسة الأولى “. ولذلك، وفي الحديث عن هذه الفترة المفصلية في تاريخ الحضارة الاسلامية التي تعكس “نضج الحضارة العربية الاسلامية ونضج العقل العربي والاسلامي”، يرى وزير الشؤون الدينية الأسبق، أنه “ليس من باب الصدفة أن يطرح توفيق بن عامر مسألة الثقافة بين المشافهة والكتابة وهو يعتبر اشكالا كبيرا نابعا ربما من الاستشراق حيث أنه اشكال طُرِح بعمق في الحضارة الغربية”. وعلى ذلك فإن ما دُوِّن أو كُتِب عن حضارتنا العربية الإسلامية “التي كتبناها في مرحلة ما سمي بعصر التدوين في القرن الثاني للهجرة ربما لا يعكس حقيقة العقل العربي الاسلامي”.

الدكتور عبد الجليل سالم
وتأسّيا بالدكتور منصف عبد الجليل، لم يفوّت الاستاذ عبد الجليل سالم الحائز على شهادة الدكتوراه في أصول الدين عن بحث حول “التأويل عند الغزالي نظرية وتطبيقا” للوقوف عند مناقب المُؤلّف معتبرا أن “ميزة توفيق بن عامر أنه متمكن من الثقافة الإسلامية في أصولها مثل مباحث الفقه ومباحث المقاصد التي أظهر فيها تمكنا كبيرا من خلال مقاربة حضارية وتاريخية قَلَّ نظيرها”. وقد اعتبر المحاضر أن هذه المقاربة التي اعتمدها توفيق بن عامر “ترقى إلى مستوى الدراسات التي قرأناها لمثقفي التنظير في العالم العربي مثل محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وبقية المفكرين الكبار الذين أعادوا قراءة العقل العربي ذلك أن هذا العقل العربي في عمقه هو عقل فقهي وبياني”.
كما يرى الدكتور عبد الجليل سالم أن ميزة توفيق بن عامر “في توازنه ورصانته وعمقه وتمثُله لأطروحات متقابلة ومتناقضة”. ويضيف المحاضر أن”في معالجته لهذه المسائل، سواء في الفقه أو الأصول أو الأدب أو التصوّف أو في الفكر الإصلاحي أو المسائل الحضارية، أثبت تقنية عالية ونوعا من الهدوء والرصانة وعرض مختلف الآراء بشيء من الموضوعية وكثير من الحياد”.
ولعلّ من ميزات المؤلّف أيضا امتلاكه لخصيصة “العمق في تناول مسائل شائكة طاشت فيها الأفهام وطاشت فيها التأويلات والقراءات سواء في درس التفسير او الكلام او في اي مشغل من مشاغل العقل العربي الإسلامي”. حيث يرى عبد الجليل سالم أن توفيق بن عامر “يكتب بمهنية وبعمق أكاديمي وبِنضج كبير قل نظيره في الدراسات” مشبها اياه بالعلامة عبد الرحمان ابن خلدون قائلا : “توفيق بن عامر يلخص المسألة بكل اقتدار ويكتب كتابا كأن ابن خلدون يكتب مقدّمته”. كما يمتاز المؤلف بحسب المحاضر بأنه عبر كتاباته يتخذ “موقفا دون أن يتورّط في موقف حدّي”.
ومُعقِّبا على عنوان الكتاب كترجمان حقيقي لمحتواه واشكاليته، يرى الدكتور عبد الجليل سالم إن الكاتب أراد أن يؤكّد على وجوب النظر الى الثقافة العربية الاسلامية أو ما يعرف بالعقل العربي الاسلامي “في كليته وفي شموليته” لا “مجزأ” بمعنى أن “ثقافتنا العربية الاسلامية كما شكلها الأدب والشعر واللغة كذلك شكلتها علوم البيان والتصوف والفلسفة.” ولذلك فإنه من الحتمي “حتى نكَوِّن جيلا اكاديميا متوازنا يجب اعتماد هذه المنهجية وهذه المقاربة دون فصل ضفة عن ضفة أو مسلك عن مسلك أو مشغل عن مشغل حيث أن كل المشاغل تصب في مسلك واحد وهي كلية الثقافة العربية والاسلامية”.
صور : راديو الصوت الحر بأكودة