في الآونة الأخيرة تواترت المشهديات التي تدفعنا دفعا إلى التفكير والتفكر في منبع العنف الكامن في شريحة من التونسيين غير قابلة للحصر والتصنيف.
نساء ورجال وأطفال لا يتوانون عن إطلاق سمومهم في الفضاءات العامة الواقعية منها والافتراضية حتى أن مواقع التواصل الاجتماعي صارت تحاكي بؤر التوتر، احتقان وعنف وتمظهرات عديدة لللاإنسانية.
لنضغط قليلا على زر العودة في جهاز تسجيل الأحداث لنقف وجها إلى وجه مع حدث مهم في حياة كل طالب علم؛ النجاح في امتحانات الباكالوريا، هذا الحدث الذي يسيل كل سنة الكثير من الحبر.
فيما يقتنص التلاميذ وعائلاتهم لحظات الفرح، يترصد البعض زلات اللسان ويشحنون الأجواء بطاقاتهم المفعمة سلبية وعقدا وأمراضا لا شفاء منها ولا يخجلون من محاولات التشويش على فرحة الآخرين.
مخجل جدا ما حصل مع التلميذة المتفوقة في امتحانات الباكالوريا إسراء نصيب التي تحصلت على معدل 20.01 وزرعت الأجواء من حولها فرحا ولكن يبدو أن بعض النفوس المريضة بخستها تتناسى تميزها وتحول نطقها للمعدل باللغة الفرنسية “moyenne” كما ينطقها الكثيرون بالعامية “moyen” إلى قضية رأي عام.
فجأة تحولت صفحات التواصل الاجتماعي إلى منصات متخصصة في اللغة الفرنسية ونصب البعض أنفسهم مدافعا عنها أمام “الفعل الشنيع” الذي اقترفته في حق كلمة بل إن البعض تجاوز ذلك إلى الحديث عن لبسها وعن البيئة التي تربت فيها والتشكيك في تميزها.
بعض التعليقات لا يمكن وصفها إلا بالمرضية ولكن ذلك لا يطمس وجود أصوات عاقلة “دافعت” عن إسراء التي وضعها البعض في محل “الاتهام” لأنها لم تنطق كلمة كما ينبغي، “حرب” بين فئتين من الناس كان يمكن تجاوزها لأن الأمر فعلا لا يستحق كل ما مضى.
قد يكون البعض غيورا على اللغة الفرنسية أو لنقل على التعليم في تونس الذي تدهور منذ سنوات ولكن البعض لم ير ذلك الا حينما تحدثت “إسراء” فوجهوا سياطهم نحوها ولم يشفع لها تميزها ولا صغر سنها.
يبدو أن التدهور ضرب أطنابه في النسيج المجتمعي وأن أزمة الأخلاق استفحلت والا لما وقعت الأعين على كل تلك التعليقات المقرفة والعنيفة التي تنذر بما هو أسوأ، تعليقات تهاوت على أعتاب فيديو للتلميذة ووالدها صرخت فيه ابتسامتهما وكانت ردا صارخا لمن حاولوا أن يوجعوهم.
هذه القصة كغيرها تظهر جانبا متوحشا من شخصية التونسي ويتأجج معها الخوف من القادم وتلح الأسئلة ذاتها “لماذا استشرت أزمة الأسلوب.. لماذا لا نحترم حدود النقد.. لماذا نغزو فرح الآخرين وحزنهم.. لماذا نبدي “آراءنا” في أشياء لا تعنينا؟
مواقع التواصل الاجتماعي صارت مخيفة جدا، “حشود هستيرية” تتحرك معا تمعن في الأذية ولا توقفها قوانين ولا أعراف ولا أخلاق، لا تحترم الفرح ولا الحزن، تقتل الأموات مرات وتزرع الموت في ثنايا الأحياء حينما تطلق العنان لقريحتها المريضة.
من حراسة بوابة اللغة الفرنسية إلى حراسة بوابة الاخلاق بأساليب غير أخلاقية، تتواصل شطحات الفايسبوكيين والفايسبوكيات لتعكس منسوبا من الضحالة ومن العنف المتجلي في التدوينات والتعليقات.
موجة عارمة من “المواعظ” غزت مواقع التواصل الاجتماعي، إثر “تسريب” فيديو من مناقشة مشروع في مجال تصميم الأزياء اختارت صاحبته أن تهتم بالملابس الداخلية فصارت لقمة سائغة في كل الأفواه.
والإشكال هنا ليس في إبداء “الرأي” في حد ذاته وإن يخضع هو أيضا لتقييمات مختلفة خاصة فيما يتعلق بأهمية هذا “الرأي” وحتميته، بل بالطريقة الفظة التي تفتقر لأبسط مقومات الحوار وتقنيات الخطاب والتخاطب التي تتطلب حدا “أدنى” من الاحترام.
تعليق يعقبه تعليق فسيل من التعليقات وموجة من السحل انسحبت على صاحبة المشروع واللجنة وانهمرت إثرها وجهات النظر الأخلاقاوية لتحمل الموضوع أكثر مما يحتمل ويظهر السواد الأعظم بثوب “الشيطان” الذي ينهى عن “المنكر”.
الأمر هنا لا يتعلق بكونك “محافظا” او “متحررا”، “منفتحا” أو “متزمتا”، بل يتعلق بأزمة تواصل وبمأدبة سحل تقوم في كل مرة على “شرف” شخص لم يكن ليخطر بباله يوما أنه سيكون محل كل هذا الجدل.
وسط الكم الهائل من الأحكام الموشحة بالعنف تتساءل عن الطاقة الكامنة داخل أولئك الذين يفقهون في كل المجالات ويبدون آراءهم في كل الأحداث ويلبسونها أثواب الأخلاقاوية والحال أن مكامن “الخطأ” أو “الإساءة” جلية وواضحة وتستدعي فعلا الخوض فيها.
لماذا يتركون لب الموضوع ويتشبثون بالسفاسف ويدوسون في طريقهم على كل الأخلاق والأخلاقيات، يملؤون الدنيا ضجيجا وجعجعة ويغرقون الأجواء بالقشور وويوسعون دوامة الرداءة والتفاهة؟..
لماذا يمعنون في مشاركة فيديوهات وتدوينات عن نساء يرقصن على الأركاح ويغمضون أعينهم عن نساء يقتين كل يوم بطرق بشعة، لماذا يبحثون في كل مرة عن ثغرة يتحدثون فيها عن تشويه صورة المرأة التونسية وكأن المرأة التونسية واحدة بنسخ متعددة؟..
لماذا يقحمون الزوح والأب والأخ ويرمونه بأبشع النعوت والحال أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وكل مسؤول عن سلوكياته مادام كامل المدارك العقلية؟…
لماذا نكتفي بالظاهر من الأمور ولا نناقش الأسباب المؤدية الى حدث ما وأسباب التسطيح والتتفيه، لماذا ولماذا ولماذا لا تنتهي الأسئلة عما آلت إليه الأوضاع اليوم؟
وسط أكوام الأسئلة لا تترك لك الحوادث المشابهة متسعا من الوقت لتستوعب، كل المجالات نخرها سوس العنف والأنفس عشاها المرض بطريقة مخيفة تتعطل معها ملكات العقل خاصة أمام مشهد أب تسلط عليه الإهانة بسبب اختيار كروي!
بعض جماهير النادي البنزرتي تُجبر أحد أنصار النادي الإفريقي على نزع قميص كان يرتديه، فيما تجلس ابنته في كرسي متحرك وتعجز كل كلمات العالم عن وصف العجز والقهر الجاثمين في عينيه.
حادثة أخرى تُضاف إلى السجل الحافل والممارسات والسلوكيات التي تقف معها عاجزا عن التحليل والتأويل ولا تملك إلا أن تحصن إنسانيتك من العنف الذي يتخذ أكثر من هيئة ويتسلل من كل صوب.