على ركح مهرجان الحمامات الدولي بُعث “عطيل” حيا من جديد ليرسم وجها آخر للصراع بين الشمال والجنوب ويعيد ترتيب الحكاية وفق نسق ينتصر للشخصية الجنوبية الافريقية.
“عطيل” مر من نفس الركح سنة 1964 في افتتاح مسرح الحمامات في مسرحية من إخراج علي بن عياد وهاهو يعود اليوم بهيئة أخرى وروح أخرى في “عطيل وبعد” من إخراج حمادي الوهايبي ونص بوكثير دومة.
وعبارة “وبعد” ليست اعتباطية فهي تحيل إلى تفاصيل رؤية مغايرة تحمل في جوانب منها إعادة البناء والصياغة وتوحي برواية أخرى لحكاية انتصرت نهايتها للشمال ولم تلق بالا لما “بعد” من رفض وثورة.
في ذروة الصراع بين الشمال والجنوب يأتي نص بوكثير ليعيد خلق شخصيات “شكسبير” وفق رؤية جنوبية متجذرة في الحياة والمقاومة، رؤية تعيد ترتيب الأوراق التي بعثرتها الرواية الغربية.
دون تعصب أو دغمائية ينشد “عطيل” الخلاص على إيقاع ثنائيات جمة تناثرت على خشبة الحمامات لتتعانق مع الموسيقى والشعر والكوريغرافيا وتخلق حالة فرجوية تستدر التفكير والتأويل وتكتب الواقع من جديد.
حالة من النوستالجيا سرت على مسرح الحمامات والممثلة منى نور الدين تتابع الممثلة إباء الحملي وهي تؤدي نفس الدور (إيميليا) الذي أدته قبل ستين عاما، وكانت إباء أبية في أدائها رشيقة كفاءة تختال بين الزهور، قوية كزهرة نبتت بين الصخور.
كل الممثلين تركوا أثرهم على الخشبة، مهذب الرميلي الذي انتصر بسماره لكل الجنوبيين وطوع انفعالاته ليعيد كتابة شخصية عطيل بما ينتصر لنا نحن الذين أرهقتنا نظرة الغرب الدونية واستنزفنا تعاليهم، كان جسده نابضا بالكفاح.
نور الدين الهمامي تقمص شخصية رودريغو حد النخاع حتى أن نظراتها وتعبيراتها سكنته حتى بعد العرض وهو الذي يثبت في كل مرة أن الفن المسرحي حالة عشق وتجل إذا وصفت خارج الخشبة لا يفيها الوصف حقها.
فاتن الشوابي(ديدمونة) محمد شوقي خوجة (ياغو) وبهرام العلوي (كاسيو) وسامية بوقرة (والدة عطيل)، تماهت الشخوص والشخصيات لتخلق حالة فنية وفكرية تسائل الماضي والحاضر وتحاول صياغة مستقبل لا ظلم فيه على إيقاع أداء تتداخل فيه الانفعالات وتتشابك فيه الرسائل.
والمسرحية التي تعتمد اللغة العربية الفصحى يشارك فيها الفنان أحمد الماجري إذ كان حضور الموسيقى إلى جانب الكوريغرافيا بمثابة محركات الانتقال من نسق إلى نسق آخر، حيث تتخذ الأحداث منحى تصاعديا وهي تحاكي نغمات الغيتار والصوت الصادح والخطوات المدوية على الخشبة.
وعلى ركح مهرجان الحمامات الدولي ارتسمت ملامح عمل مسرحي فرجوي يراوح بين الأداء الركحي والشعر والموسيقى والغناء ويعيد صياغة الواقع وترتيب الأحداث وتشكيل مصائر الشخصيات وتحريرها من قيود النص.
طيلة المسرحية تجلت ثنائيات الخير والشر، الحب والكره، الانفتاح والتعصب، العنصرية وقبول الآخر، ثنائيات ظهرت في أداء الممثلين وتعابيرهم وتعبيراتهم وفي اختيار الموسيقى والعناصر السينوغرافية وتشكيل اللوحات الكوريغرافية بإمضاء ريان سلام وشيماء ارحاولية بمساهة قيس بولعراس.
وفي حديثه عن مسرحية “عطيل وبعد”، قال مخرجها حمادي الوهايبي إنها مقترح فكري وجمالي استوحي السينوغرافيا من ركح مسرح الحمامات الذي أصبح بمثابة المعلم وهو الذي يمر على تأسيسيه ستون سنة.
كما أعرب الوهايبي عن سعادته بهذا العرض وبتشجيع الجمهور الذي ساعد الممثلين في خوض مغامرتهم على ركح الحمامات المختلف بشروطه وخصائصه.
وفي السياق ذاته، أعرب الممثلون عن سعادتهم وفخرهم بخوض هذه التجربة على ركح مسرح الحمامات الدولي في عمل مقتبس من الرائعة الشكسبيرية “عطيل” التي احتضن مسرح الحمامات شخصياتها في حياة أخرى قبل ستين سنة.