تتواتر السنين وتترك أثرها شيبا يغزو الرؤوس وتجاعيد تكسو تقاسيم الوجه ولكن ذلك الطفل داخل كل منا يظل يقاوم ليحفظ براءته ويظل صامدا في وجه الدنس.
الطفل فينا يلاحق أثر الصغر حيثما كان ويقتفي خطاه في الحكايات المتناثرة على الأركاح في شكل عروض تلعب على أوتار الحنين وتشرع أبواب الذاكرة والوجدان.
من بين هذه العروض عرض “سندريلا على الجليد” ضمن برمجة الدورة الثامنة والخمسين من مهرجان قرطاج الدولي، عرض يوغل بك في حالة نفسية وذهنية تغدو معها طفلا تتعلق عيناه بالركح كي لا يفوت أي تفصيل.
“سندريلا” الفتاة التي قاست الويلات من زوجة أبيها وابنتيها قبل أن تبتسم لها الحياة ملء فمها طبعت طفولتنا وهاهي تبعث اليوم حية من جديد في عرض يغازل الحس والحواس.
قصة خيالية من بين قصص كثيرة رسخت في أذهاننا لكونها مشحونة بالعواطف والمشاعر ومحبوكة بأسلوب يحاكي الحياة في تقلباتها وامتدادها من القسوة إلى اللين، أسلوب ينتصر للخير.
تلك النهاية السعيدة التي آلت إلى زواج “سندريلا” التي واجهت الظلم والقسوة من الأمير تجلت على ركح مهرجان قرطاج الدولي الذي كساه الجليد فسطع وتلألأ وصار جزءا من القصة.
على إيقاع قهقهات الأطفال وهم يتوافدون أفواجا أفواجا مصحوبين بأوليائهم يشدك وميض الركح الذي حوله مهندسو عرض “سندريلا على الجليد” إلى فضاء تزلج استوعب وهيج الحر وتوهج مشاعر الراقصين.
بعد أن دوى النشيد الوطني في المدارج وتسربت أصوات الأطفال مرددين “حماة الحمى يا حماة الحمى” وخفقت الراية التونسية في الأرجاء، تناثرت شظايا الجليد في المساحة المتجمدة لتشكل أولى ملامح الحلم.
كل المشهدية ملائمة للحلم، ابتسامات الأطفال، الكتاب الضخم الذي يتوسط الركح، مساحة الجليد التي تحدت القيظ، حركات المتزلجين والمتزلجات، تعابير وجوهمم، سلاسة المرور من لوحة إلى أخرى.
“سندريلا” ما انفكت تعلمنا أن نحلم وأن نحب وأن نحضن أحلامنا وقلوبنا ونتدحرج على الجليد ونقفز عاليا ونلامس الأرض دون أن نسقط بل إننا نُرفع على الأعناق في النهاية وننتصر لأنفسنا.. للحياة.
في عرض تتجلى فيه فنون ركحية كثيرة يتماهى التزلج على الجليد والرقص الاستعراضي والباليه والجمباز والحركات البهلوانية لتخلق لوحة بصرية مبهرة تأسر العين والجوارح وتقحمك في ثناياها.
القصة الكلاسيكية التي ألهمت العديد من الفنانين ومازالت محل إلهام واقتباس اتخذت بعدا آخر على الركح المتجمد الذي صارت معه المشاعر المتدفقة أكثر دفئا على إيقاع أنغام موسيقى الروسي سيرغي بروكوفييف.
جماليات كثيرة تناثرت على الركح بدءا من السينوغرافيا التي تترجم عنوان العرض الفني وتوغل بك في عوالم مدادها من خيال والسرد الذي لم يسلخ الحكاية الأصلية ويستنسخها بل طوعها دون أن يفقدها كنهها.
بنية درامية مغايرة وسرد مبتكر تبدى على الركح في شكل لوحات ظهر فيها الراقصون فرادى ومثنى وجماعات وتركوا على الجليد أثر مرورهم الأخاذ إذ يخيل إلى الناظر إليهم وكأنهم جذور ممتدة من الجليد وأجنحة ضاربة في السماء.
مجموعة من الفنانين الذين ألفوا الجليد والفهم من المملكة المتحدة والتشيك وروسيا وفنلندا وصربيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا تماهوا مع الفضاء الساحر الذي تشكل على ركح قرطاج الأثري وانغمسوا في العجائبية.
حتى المدارج صارت جزءا من عوالم الخيال التي ارتسمت بأكثر من ملمح وذلك من خلال حركة الضوء الذي يتخذ وجوده وأثره من سيرورة أحداث القصة ومن الموسيقى ومن وقع أقدام الراقصين على الجليد.
فالضوء لا ينحصر على المساحة الجليدية فحسب بل يمتد إلى حيث الجمهور ليخلق هالة من الخيال تعزل الركح ومحيطه عن الواقع وتوشح الأرجاء بمسحات مختلفة من الخيال تطلق العنان للتخيل.
لوحة تلو الأخرى ينهمر معها السرد لتظهر القصة الكلاسيكية التي ألهمت طفولتنا في صورة أخرى في منزلة بين الجليد والوهيج، إذ تمنحك خيوط الجليد المتصاعدة من الركح شعورا بالبرد نفتقده في حر الصيف ويهبك إبداع العرض إحساسا بالدفء وسط صقيع المشاعر.
سفر في الزمن عبر مزيج من الصوتيات والبصريات، تناغم بين الصوت والضوء، وانتقال في المكان والزمان وجولات بين الأزياء التي كانت أحد عناصر الإبهار في العرض لما تحلت به من جمالية.
حتى ثياب “سندريلا” الرثة بدت مبهرة وانعكس عليها ألق الجليد الذي كسا الركح حيث تواترت اللوحات وتواترت معها الأزياء التي تعكس تصميمات مبدعة تجسدت بأقمشة فخمة.
خامات وألوان متنوعة حملت أزياء القرون الوسطى إلى الركح وطبعتها بلمسة عصرية تسكن في التفاصيل والطيات، تطريز مبهر، ستان برّاق، شيفون ومخمل مبهران، وإحالات إلى الأزياء الفرعونية واليونانية.
الأزياء التي كانت مفتاحا لولوج أبواب الخيال كانت تظهر على الركح في وقت وجيز وكأن الراقصين يلقون تعويذات وهم يغيرونها من لوحة إلى أخرى، الأمر الذي يدل على تمكنهم من البروفات وتوليهم زمام الزمن الدرامي.
على امتداد ساعتين تتوسطهما فسحة من الراحة بعشرين دقيقة انتفت اختلافات الأعمار وصار كل الجمهور “أطفالا” يقتفون أثر قصة تتحدى النسيان، وإن كانت هذه الاستراحة بمثابة القطيعة مع الخيال والعودة إلى الواقع إلا أنها ضرورية.
فبعد حوالي خمسين دقيقة من الرقص على الجليد تغزو النتوءات الأرضية ويغدو من الصعب التحرك فوقها بسلاسة فتصبح تهيئتها من جديد أمرا محتوما رغم أنه يقطع حبل الخيال لفترة طويلة نسبيا.
وبعد راحة أعادت الجمع إلى الواقع ترتسم معالم الخيال من جديد ويخطف الراقصون الأبصار والبصائر بخفتهم ورشاقتهم وتماهيهم مع الركح الجليدي وتفاصيل القصة التي ما فتئت تدغدغ الذاكرة وتستدر الذكريات.