“تخيّل” عنوان عرض فني تجريبي نسج الفنان كريم الثليبي تفاصيله من روحه وهواجسه وشاعريته الصارخة ليحمل المنغمس في تفاصيله إلى عوالم لا ترى إلا بعين القلب.
منذ النوتة الأولى تشرع مخيلتك أبوابها وتقذف روحك أثقالها وأنت تلامس وجع أم مكلومة بكى قلبها حتى ذهب بصرها وتتحسس أثر الموت في الأحياء وتستنطق البحر الذي لو كان يخبر حرقة الأمهات لما ابتلع فلذات أكبادهن.
الموسيقيون والراقصون والمغنون على الركح يترجمون تصور الثليبي المارق عن السائد والمألوف ويضفون عليه الكثير من أرواحهم ويقحمونك دون إيذان في التفاصيل التي تبدو في البدء مرهقة لكنها تحررك فيما بعد.
وسط فوضى المشاعر والحواس وغزوة الوحشية وسيل الدماء في غزة وغطرسة الغرب وتلاشي إنسانية الإنسان أصبح فعل التخيل عسيرا ولكن عرض “تخيل” بدد العسر شيئا فشيئا حتى صار يسيرا.
رغم كل الضجيج داخلك وكل الأصوات المتصاعدة على الركح تتشكل هالة من الهدوء والسلام على إيقاع معالجة درامية ونفسية للموسيقى بمعاضدة فنون أخرى في عرض
من تأليف وتوزيع كريم ثليبي عن رواية للأديب محسن بن نفيسة “غدا .. يوم القيامة”.
وانت تتخيل يصبح للنغمة والخطوة والكلمة والصورة أرواح وانفعالات وأحاسيس تتسرب إليك على جرعات فتتمثل الوجع والقهر وتقول العبرات قولها وتربت الموسيقى على روحك وتضيء ثنايا ذكراتك وتنهمر الذكريات وتساقط الخيبات والأحلام والأمال والأوهام والهواجس تباعا.
في هذا العمل طاقة متوهجة لا تغفل شاردة ولا واردة تخاطب العقل والقلب وتتحدث إلى كل الحواس وهو ما يعكس البحث العلمي والمخبري المعمق والقدرة على توشيح الوجع بالجماليات فيما تتشكل عناصر بصرية وصوتية وحسية تظافرت على الخشبة.
ملامح أخرى للصراع والألم ارتسمت على الخشبة حيث حضرت الكوريغرافيا بإمضاء عبد القادر الدريحلي والسينما عبر شريط سينمائي بامضاء عبد الحميد بوشناق ورامي جربوعي والمسرح من خلال الرؤية الركحية للمخرج وليد الدغسني.
والمرفقات الصوتية بإمضاء كريم الثليبي تستحضر الألم والوجع وتروي حكاية أم ابتلع البحر ابنها فما عادت دموعها تستجيب لحرقتها وتؤدي دورها في الشريط السينمائي الممثلة فوزية بدر التي وظفت تعبيراتها ونظراتها لتستنطق المأساة.
الوجع في عرض “تخيل” يرشح جمالية إلى حد الرغبة في احتضانه لعله يترك بعضا منها فينا، والأصوات والصور نابعة من عمق الذات الإنسانية ومن عمق تونس، أصوات مطبوعة بصوت الريح وموج البحر والمطر حينما تلثم الثرى، والصور مصبوغة بوشم الجدات وكمال الصحراء وخضرة الغابات وكل تفاصيل الوطن.
على نسق موسيقى الاركستر السمفوني التونسي بقيادة المايسترو محمد بوسلامة وأصوات أوبرا تونس، بحضور الفنانين، ناي البرغوثي وزياد الزواري وهيثم الحذيري ومحمد علي شبيل وحسين بن ميلود وهادي فاهم وصابر رضواني وسيرين هرابي وحمدي الجموسي ونصر الدين الشبلي، اتخذ العرض أبعادا سيكولوجية توغل في الدواخل وتقحم المشاهد في الحكاية.
تأويلات نفسية مختلفة ظهرت خلال العرض الذي يشكّل حالة درامية بمضامين استيتيقية ويتسلل إلى زوايانا المظلمة، يرافقنا ونحن نجوبها دون خوف أو خجل أو ندم ويشد على أيدينا لنتصالح أكثر مع ذواتنا ونصنع من الدمع ابتسامات.
وفي العرض الخاص باختتام مهرجان الحمامات الدولي لفتة للملحمة الفلسطينية من خلال ديو بين الفنانة الفلسطينية ناي البرغوثي والفنان التونسي صابر الرضواني حيث التقى الموروث الموسيقي الفلسطيني والتونسي فيما ظهرت صور من المجازر في الشاشات على الركح قبل أن تتوشح بالراية الفلسطينية.
“تخيل” حلم لامتناه يخترقك ويسكنك، يزعزع روحك، يهز كيانك ويدفعك دفعا إلى ترتيب أولوياتك من جديد على إيقاع الأصوات المضاربة في عمق الأرض وعلو السماء …