تتزاحم الأفكار في رأسي وأعجز عن ترتيبها.. تؤلمني ذاكرتي وتتبعثر أنفاسي وأنا أحاول أن أمسك طرف خيط أنظم به فوضى أيامي.. أهرع إلى يوتيوب أبحث عن مسلسل من الزمن الجميل يروي حنيني وينتشلني من حالة الضياع.
“قضية رأي عام”، استقر اختياري على هذا المسلسل الذي يبدو فيه الصراع بين الخير والشر واضحا وجليا وتخوض فيه البطلة حربها حتى النهاية وتنتصر.. هذه الدراما الاجتماعية المصرية تعود إلى سنة 2007 حينها كنت تلميذة في المعهد الثانوي، طفلة بقلب جامح وروح جميلة تحاول أن تصنع لنفسها سبيلا يحاكي أحلامها الوردية..
مع انطلاق جينيريك المسلسل تتعطل آلة الزمن وتقف في الماضي ومع تواتر المشاهد ترتسم على وجهي تلك الابتسامة الشغوفة التي مازلت ترافقني رغم كل الخيبات، إني أراها بقلبي غصبا عن ألق الحزن في عيني..
كلما انهمر السرد في المسلسل تناثرت إسقاطاتي على الواقع، وتهاطلت عباراتي على وقع المواقف المبدئية من جهة والخيانات والغدر من جهة أخرى وأنا في تمام الوعي بأنني أبحث عن خلاص لم تعد تعنيني شاكلته..
الحاضر موجع جدا لا يشبه كل تلك الأحلام التي راكمتها، كل الأشياء من حولي تتغير إلا أنا أبدو وكأنني أسيرة في مربع سحري كلما حاولت تجاوزه عدت إليه لتكون السقطة التالية أكثر وجعا.
على قدر الوجع الذي أواجه على جميع الأصعدة شح دمعي ولم يكن أمامي خيار آخر غير الارتماء في حضن مسلسل تربت بطلته العنيدة على روحي فتهدأ خلجاتي وأنهمك في إحصاء الجروح ..
صدقا لا أعلم كيف تحول المسلسل إلى صديق تعريت معه وغرزت أصابعي مكان الضمادات التي وضعتها على جروح لم تندمل، لم أصرخ ولم أتألم على العكس تماما أحسست بارتخاء وأنا أتنفس من جراحي.
كل تلك الثقوب في جسدي صارت عيونا تجسدت فيها كل الملابسات والأحداث ورأيتني أستمر نفسي إلى آخر رمق وأستنزفني وأنا أمد يدي إلى الآخرين، أهدم كل الحدود التي من شأنها أن تحميني بكامل إرادتي ولا أعي إلا وركامها يتهاوى على رأسي، أبكي قليلا وابتسم كثيرا..
وأنا أخط هذه الكلمات المبعثرة مازلتُ لا أعرف الأسباب التي تجعلني في كل مرة أعيد الكرة رغم كل الرايات الحمراء المنذرة بالخيبة، لا أعلم إن كانت طيبة أو سذاجة أو محاولة للوجود أو عرفانا مبالغا فيه ولكن كل ما أعلمه أن الأمر بات مرهقا جدا حتى أن جسدي لم يعد يتحمله.
بين سيناريو “قضية رأي عام” وبين مسيرتي ومسارات تأرجحت وأنا أمرر أصابعي على مكامن الألم الذي يتأجج على نسق الذكريات وما أشد الألم في قلبي وروحي، ألم تسرب على شاكلة دموع أفلح المسلسل في استدرارها.
كنت على يقين بأن الانكسارات نخرتني ولكنني لم أع عمق الأمر إلا حينما أمطرت عيناي دفعة واحدة، فرحت كثيرا وأنا أتحسس الدمع على وجنتي وأردد أن بكاء القلب تستحي منه كل الحواس، شح دمعي منذ فترة لأني قلب أدمن البكاء.
لم أكتف بهذا القدر كان لي نصيب من البكاء في عيادة طبيبة العظام والمفاصل، اختنق صوتي وارتجفت كل خلاياي وأنا أشير إلى مواضع الألم واسترسل دمعي حينما رأيت التعاطف مترقرقا في عينيها..
“لن أتركك .. أنا معك.. لن نعود إلى الوراء” قالت بنبرة وديعة خلقت لي جناحين، رائع هذا الشعور بالأمان جعلني أهدأ وابتسم مع وعد صادق بأنني سأتغير وبأنني لن أوجع روحي ولا جسدي..
يومها كنت أرتدي قميصا أبيض كتبت عليه بالإنجليزية ” wild heart beautiful soul”
شحنتني العبارة أحسست أنها تختزلني “قلب جامح.. روح جميلة” وأيقنت حينها أنني أرهقت نفسي بما يكفي وحان الوقت لأحصنها من كل الأدران وقررتُ حينها زيارة الأخصائية النفسية.
العلاقة بيننا غير قابلة للتصنيف، صديقة وأنيسة ورفيقة ومستمعة لا تحاسبني ولا تحاكمني والأهم أنها تتذكرني وحكاياتي رغم غياب ثلاث سنوات والأشد أهمية أنها تستوعب حساسيتي المرهفة تجاه كل شيء من حولي..
هي تعلم جيدا أن زيارتي لها لن تتكرر إلا بعد مدة طويلة رغم أننا اتفقنا أن جلسات العلاج ستكون بمعدل جلسة كل عشرة أيام، تلك أنا مزاجية تكره الروتين والمواعيد المسبقة، لذلك وهبتني كل النصائح دفعة واحدة..
هذه النصائح صالحة لكل زمان ولكل مكان ولنا جميعا، لا يستحق الجميع طيبتنا المفرطة، خدماتنا المبالغة فيها للآخر لا تلاقي غالبا التقدير المنتظر، يجب أن نترك دائما مسافات وحدودا مع الآخرين، أنفسنا أولى بعشقنا…
كلمات الأخصائية النفسية كانت كفيلة بأن أرى العالم من زاوية أخرى أنا محور الكون فيها، لن أبدل ولن أتغير ولن أرد الأذية بالأذية ولكنني لن أبذل كلي في سبيل الآخرين ولن أقسو على نفسي، أنا ومن بعدي البقية.