تقول إحدى الحكم (من المرجّح أن تكون صينية) في الحثّ عن العمل واستنهاض الهمم ونبذ التواكل والاستكانة “لا تقف بجانب النهر وتأمل في الحصول على سمك. عد لبيتك واصنع شبكة صيد”. ولعلّ الصينيّين هم أوّل من عمل بهذه الحكمة ليجعلوا من بلدهم، في ظرف وجيز جدا، إحدى أعظم القوى اقتصاديا وأكبر الأقطاب تكنولوجيا وأثرى التجارب انسانيا.
إن الزائر لهذا البلد الضخم جغرافيا وعمرانيا واقتصاديا يلمح بمجرّد أن تطأ قدماه الأراضي الصينية مدى قدرة الشعب الصيني الاستثنائية على تطويع كل ما أتيح له من إمكانيات، على بساطتها أحيانا، من أجل بناء نهضة عمرانية وانسانية وحضارية ورقي اقتصادي يضاهي ما بلغته الأمم الغربية على مدى عقود بل وربما يتجاوزه في العديد من الحالات. فعظمة المباني المشيّدة وضخامة الجسور المنتصبة وشساعة الطرقات الطويلة ونظافة الساحات العامة وخُضرة الأمكنة والمساحات ونضارة الوجوه المبتسمة توحي بما لا يدع مجالا للشك بأن وراء كل هذا المُنجزِ شعبا جبّارا وصبورا وذوارؤية ثاقبة.
ولعلّ ما ساعد هذا الشعب على المضي قدما في نحت طريقه ورسم مصيره على خطى الرقي والازدهار هو إيمانه الراسخ بأن الطريق أمامه ماتزال طويلة وأن مسار البناء لا يتوقّف عند حدود المُنجَزِ بل يتخطّاه حتى يبلغ منتهاه. فمعظم المسؤولين وممثلي المؤسسات الذين التقيناهم خلال زيارتنا للعاصمة بكين ولإقليم نينغشيا، ضمن وفد إعلامي ضمّ ممثلين لوسائل إعلام تونسية عمومية وخاصة في إطار “الدورة التدريبية حول بناء قدرات التواصل الإعلامي التي نظمتها من 19 أوت إلى 1 سبتمبر شركة التعاون الدولي الاقتصادي والتقني للبث الصيني CBIC تحت رعاية وزارة التجارة الصينية، يصرّون دائما في حديثهم لنا على اعتبار بلدهم بمثابة إحدى الدول النامية التي مازال الطريق طويلا أمامها حتى تحقق لنفسها الطفرة الاقتصادية المرجوة والحلم ببلوغ القمة الذي لطالما كان الهدف المنشود.

الوفد الإعلامي التونسي في زيارة الى الصين من 19 اوت الى 1 سبتمبر 2024
وبالرغم من كل المنجزات التي تشير دون أدنى شك الى أن بلد المليار ونصف المليار نسمة قد أصبح رقما صعبا في المعادلة الاقتصادية والسياسية الدولية من خلال تحقيقه لأرقام جد مشجعة من ذلك نسبة نمو سنوية بلغت 5.3% في الربع الأول من عام 2024 وذلك بفضل تكثيف الحكومة لسياسات التحفيز واتخاذ تدابير موغلة في الجرأة لدعم الاقتصاد، فإن الصينيين يصرّون على الانكفاء على أنفسهم ويؤكّدون حرصهم اللامتناهي على تحويل بلدهم الى “خلية نحل” لا تهدأ بعيدا عن أعين المنافسين والأعداء المتربصين في الضفة الأخرى من العالم.
وهذا الإيمان الراسخ بضرورة العمل في صمت وثبات جعل من الصين، القوة الناعمة اقتصاديا وسياسيا، تتموقع بشكل سلس وهادئ على القمّة لا بوصفها من أكبر الدول حجما جغرافيا أو ديمغرافيا في العالم بل بفضل ثبات حكّامها وقادتها واتباعهم منهج البناء والتغيير إيمانا منهم، وهي خصلة من خصال معظم شعوب شرق آسيا، أن “رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة”. وعلى ذلك فهم شديدو الاقتناع بأن الخطوات التي قاموا بها على درب الرقي والبناء، على أهميتها ونجاعتها’ ما هي إلا مجرّد بداية وأن حلم القادة الصينيين وخصوصا الرئيس الحالي شي جين بينغ، صاحب “مبادرة الحزام والطريق” التي أطلقها في سبتمبر 2013 ، هي مدّ جسور التعاون بين الصين والدول الواقعة على طول هذا الطريق من أجل تحقيق رقي اقتصادي مشترك بين الشرق والغرب.
ومن بين آليات نجاح هذه الشراكة والتعاون تنظيم جمهورية الصين الشعبية لمختلف الملتقيات والمؤتمرات ذات البعد الإقليمي من أجل تقريب وجهات النظر مع شركائها المستقبليين خصوصا الدول العربية والافريقية الطامحة الى تغيير بوصلتها من الغرب إلى الشّرق. ولعلّ القمة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي التي التأمت منذ يوم الأربعاء 4 سبتمبر بالعاصمة بكين بحضور قادة العديد من الدول الأفريقية ومن بينهم رئيس الحكومة التونسية كمال المدوري أو الدورة السادسة للمنتدى الصيني الإفريقي للتعاون الإعلامي والحوار رفيع المستوى لمراكز البحوث الصينية الإفريقية الملتئم يومي 21 و22 أوت الجاري والذي واكبه الوفد الإعلامي التونسي يترجم بعمق حرص الجانب الصيني على الذهاب بعيدا في إرساء أسس قوية ومتينة للتعاون مع الدول التي تقاسمها المبادئ والقيم المشتركة وفي بلوغ الأهداف القصوى المدرجة ضمن “مبادرة الحزام والطريق” .
* نشرع ابتداء من هذا الأسبوع في نشر مجموعة من المقالات عن تذربة جمهورية الصين الشعبية في بناء تجربة اقتصادية ومجتمعية نموذجية .