إيمانا منها بأن الأنشطة الثقافية هي أحد أهم السبل وأكثرها تأثيرا في تقريب الشعوب، عملت جمهورية الصين الشعبية على امتداد سنين طويلة وخصوصا مع إطلاق “مبادرة الحزام والطريق” أو “طريق الحرير الجديد” على اختصار المسافات وطمس الحدود الجغرافية. وللاقتراب أكثر فأكثر خصوصا من شركائها المشمولين بهذه المبادرة لم يكن من بد سوى تذليل العقبات واختراق الحواجز الفكرية والحضارية وخصوصا اللغوية، لا من أجل توحيد لغة الكلام والتواصل فحسب، بل أيضا لفتح قنوات من التبادل الثقافي والمعرفي. ولعلّ مجموعة بيت الحكمة للتبادل الثقافي الدولي إحدى المنارات التي تشعّ من خلالها أنوار الصين الثقافية والحضارية على بقية العالم.
يتوسّط بيت الحكمة الصيني الواقع في قلب مدينة ينتشوان، عاصمة إقليم نينغشيا، مجمّعا إداريا متكوّنا من العديد من المنشآت الحيوية في المنطقة. لم يكن من الصعب على الوفد الإعلامي التونسي والعربي، حال دخوله هذا الفضاء الراقي والتجوّل بين أرجائه، اكتشاف مكوّناته وأدقّ تفاصيله والاستفسار عن الزخم الهائل من المراجع والمواد الأثرية والمعدات التقنية المتطوّرة والذكية. إذ حال وصولنا تم استقبالنا من قبل الخبيرين والمترجمين السوداني عصام إيدام والمغربية بتول نجاوي، وهو ما يسّر كثيرا عمليّة التواصل وتبادل المعلومات حول هذا الصرح المعرفي خصوصا بفعل القرب اللغوي والقومي.
بيت الحكمة، نافذة مطلّة على الآخر
على غرار العديد من المؤسسات الثقافية التي تحمل اسم “بيت الحكمة”، استلهمت هذه المجموعة أيضا تسميتها من أكاديمية بيت الحكمة، وهي التي أشتهرت أثناء العصر العباسي بمدينة بغداد. وبحسب الموسوعة العربية، يطلق بيت الحكمة “على دار علمية ظهرت في عصر هارون الرشيد (170 – 193هـ) وازدهرت في عصر المأمون لتتعهد بالرعاية والترجمة إلى العربية مجموعات من الكتب اليونانية في العلم والفلسفة”.
وعلى ذلك كانت الترجمة أولى وظائف بيت الحكمة الصيني أيضا لما لهذه التقنية العلمية من دور في نشر ثقافةٍ إنسانية مشتركة وتعميمها وفتح نوافذ واسعة للتقارب بين الشعوب في مختلف الأزمنة وعلى مدى العصور.

الخبير عصام إيدام
وفي حوار مع رياليتي اون لاين بالعربية، يقول الخبير عصام إيدام، الذي يشغل منصب نائب مدير قسم المنتجات السينمائية مجموعة بيت الحكمة للتبادل الثقافي الدولي : “نسعى من خلال مجموعة الأنشطة التي نقوم بها تعزيز التبادلات بين جمهورية الصين الشعبية والدول العربية وذلك من خلال أربعة محاور وهي تعليم اللغة الصينية وترجمة وتوزيع الكتب وترجمة ودبلجة وتوزيع الأفلام والمسلسلات والرسوم المتحركة بالاضافة للتبادلات الثقافية مثل اقامة المؤتمرات الخاصة بالتعاون الثقافي بين الصين والدول العربية. من ذلك مثلا أن مدينة ينتشوان تحتضن بصفة دورية معرض الصين والدول العربية الذي يقام بمشاركة العشرات من الجمعيات والهيئات العربية والآلاف من الحاضرين. ويشهد هذا المعرض الذي يمثل فرصة هامة لتعزيز التبادل الثقافي والتجاري منتديات فكرية وثقافية ولقاءات حول التجارة والاستثمار والزراعة والسياحة الثقافية والصحة وغيرها. كما يمثل هذا الحدث الهام فرصة لتبادل ومشاركة المنتوجات الثقافية بين الصين والدول العربية الأخرى”.
أما من ناحية الهيكل التنظيمي لهذه المؤسسة الحكومية الرائدة، خصوصا على المستوى العلمي، فيقول نائب رئيس بيت الحكمة، يان شان وو، خلال حوار أجريناه معه خلال هذه الزيارة، إن “المؤسسة تضم بالإضافة إلى الموظفين الحكوميين والإداريين، هيئة من العلماء والمفكرين في مجالات مختلفة ومتنوعة. فبالإضافة إلى المختصين في الترجمة هناك مبدعون ومفكّرون وخبراء في المجالات الصناعية والتجارية والاتصال وغيرهم من ذوي الكفاءات العالية الذين يتعاملون مع مؤسستنا بهدف المساعدة على إنجاح عملية التبادل مع بقية الدول التي تربطنا بها مجالات تعاون”. وبهدف توسيع دائرة نشاطاتها ، عملت مؤسسة بيت الحكمة على الانتشار خارج الأراضي الصينية حتى تقترب أكثر فأكثر من جمهورها من الدول العربية تحديدا.

يان شان وو
وفي هذا السياق يقول نائب رئيس بيت الحكمة : “قمنا بإنشاء فروع في بعض الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وذلك بهدف بلورة تصورات أكثر دقة حول مشاريع التقارب والتبادل وحتى نقترب أكثر من شركائنا ونساهم في تسهيل عملية التبادل. كما أنشأنا مثلا بالمملكة العربية السعودية معهَديْن لتعليم اللغة الصينيّة بغاية تسهيل عملية التواصل والتقارب والتعرّف على الثقافة الصينية من قِبل المواطنين العرب”.
وعن إمكانية عقد شراكات مع مؤسسات مماثلة في الوطن العربي ومن بينها المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، أوضح المسؤول الصيني أن مؤسسته “بالإضافة الى سعيها الى تعميم هذه التجربة لتشمل دولا عربية أخرى مثل فلسطين والبحرين وكذلك تونس، تتطلّع أيضا إلى ربط أواصر التعاون مع بقية الهيئات المماثلة وهي منفتحة على جميع المبادرات من أجل تبادل الخبرات والمعارف والمنتوجات” بما في ذلك الصادرة عن المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بيت الحكمة التونسي.
في السياق ذاته، أكّد الخبير السوداني هذا التقليد الجديد الذي تعمل مؤسسة بيت الحكمة على تكريسه من خلال المبادرة “بعقد اتفاقيات مع بعض المؤسسات العربية الأخرى خصوصا في ليبيا والسعي إلى توزيع مجال نشاطها بشكل أكبر في منطقة شمال إفريقيا”. وفي هذا الصدد نفى عصام إيدام أن تكون هناك محددات أو شروط بعينها لعقد شراكات مع دول دون أخرى، مؤكدا أن الساهرين على تسيير بيت الحكمة “منفتحون على الجميع ومستعدّون للتعاون مع كل دولة ترغب بعقد شراكة في مجال التبادل الثقافي“.
قاطرة المشروع…
ليس من باب المبالغة القول إن الصين لا تتوانى عن تجنيد كل طاقاتها المتاحة لإنجاح “مبادرة الحزام والطريق” التي أرساها الرئيس الصيني شي جين بينغ سنة 2013. وتعتبر مجموعة بيت الحكمة للتبادل الثقافي الدولي قاطرة هذا المشروع الحضاري والاقتصادي لما تلعبه من دور في تحقيق التقارب الفكري والاندماج الحضاري بين شعوب الدول الواقعة على طريق الحرير وبين الدولة الراعية لهذا المشروع الإنساني الرائد والذي يأمل حاملوه أن يكون فاتحة لتشكّل توازنات جيوستراتيجية وظهور قوى اقتصادية ناشئة وانبلاج فجر جديد من العدل والمساواة في العالم.

جانب من اللقاء الذي جمع إعلاميين عرب وتونسيين بمسؤولي بيت الحكمة للتبادل الثقافي الدولي
وعلى ذلك، ما فتئت مجموعة بيت الحكمة تكثّف الأنشطة والتبادلات الثقافية على جميع المستويات من أجل تقديم صورة تتماهى مع الواقع الصيني الذي يشهد ثورة على جميع المستويات، فكريّة منها أو ثقافيّة أو علميّة أو صناعيّة أو غيرها وعبور الضفّة الأخرى من الأرض وتجاوز المسافات البعيدة التي تفصلها عن بقية العالم العربي وإفريقيا.
كما سعت هذه المؤسسة إلى الترويج بشكل مكثّف ومدروس لأفكار الرئيس الصيني شي جين بينغ وتوجّهاته في العديد من المجالات خصوصا في ما يتعلّق برؤيته الاقتصادية الرامية الى تحول الصين الى قطب اقتصادي عالمي تدور في فلكه بقية القوى الاقتصادية الأخرى أو في ما يتعلّق خصوصا برؤيته لطريق الحرير الجديد وسبل انجاح هذا المشروع المصيري. ومن بين هذه الكتب التي تُرجِمت الى العربية وتزيَّنت بها رفوف مكتبة بيت الحكمة والتي تصدرت أيضا مبيعاتها حسب المسؤولين يمكن ذكر “الدبلوماسية الصينية في فكر شي جين بينغ” و”حول الحكم والإدارة” وغيرها.
كما عملت بيت الحكمة منذ تأسيسها سنة 2011 على تكثيف أنشطتها بشكل لافت حيث تمكّنت من ترجمة أكثر من 1500 عنوان إلى عشر لغات مختلفة وأهمّها اللغة العربية. وتتوزع هذه المؤَلّفات المترجَمَة على مجالات مختلفة منها صناعية وسياسية وكذلك السير الذاتية. ولعلّ من بين أهم الإصدارات التي تم تقديمها لنا، خلال لقاء جمعنا بالمسؤولين على مجمع بيت الحكمة الصيني، ثلاثة كتب تُعْنى أساسا بالترويج للثقافة والحضارة الصينيتين. ويتعلّق الأمر برواية “مسألة الأجسام الثلاثة” للكاتب الصيني الكبير ليو تسي شين وهي تندرج ضمن أدب الخيال العلمي، والكتاب الترويجي “نينغشيا الجميلة”، وهو كتاب يقدّم صورة عن أشهر الأماكن السياحية والآثار التاريخية والأكلات التي تشتهر بها مدينة نينغشيا وأخيرا كتاب “رحلة الى الغرب”، إحدى أشهر الروايات الكلاسيكية في الأدب الصيني التي تتناول الأساطير الصينية والخيال الأدبي التي كتبها ووتشنغن خلال عهد أسرة مينغ في القرن السادس عشر. وتعتبر هذه الرواية من أعظم الأعمال الأدبية الصينية وتتألف من 100 فصل.
كما تقوم بيت الحكمة بالاضافة الى إصدار الكتب وترجمات الأعلام وكتب مفكرين وأدباء صينين وعرب وكتب للأطفال، بدبلجة وتوزيع عدد هائل من برامج الأطفال فاق عددها 110 أعمال بِلُغات مختلفة. ومن خلال فروعها المنتشرة داخل الصين وخارجها نجحت هذه المؤسسة الى أن تكون جسرا رابطا بين الصين والعديد من الدول العربية وبالأخص خلال الفترة الأخيرة التي شهدت تقاربا كبيرا بين العملاق الآسيوي والدول الواقعة على طول طريق الحرير ومن بينها تونس.
نينغشيا : منصة للتبادل الثقافي والمعرفي بين الصين والعرب
تعتبر منطقة نينغشيا الواقعة في شمال غرب الصين على مساحة تمتد على أكثر من 66 ألف و500 كلم مربع ( أكثر من ثلث مساحة تونس بقليل) والرابطة بين منطقة قوبي (صحراء غوبي) في منطقة منغوليا الداخلية وهضبة هوانغتو (التراب الأصفر)، المنصة الرئيسية للتبادل الثقافي بين الصين والدول العربية وذلك لما لها من رمزية حضارية ودينية من ذلك أنها منطقة ذاتية الحكم لقومية هوي المسلمة والتي تنطق باللغة الصينية “خوِي” وهي أيضا زاخرة بالمعالم التاريخية والحضارية التي تخلّد ذكرى أقوام عديدة تعاقبت على هذه المنطقة والتي ترتقي في قيمتها وشعبيتها الى معالم مثل المعبد السماوي وسور الصين العظيم بالعاصمة بيكين.

التعريف بمركز قيادة عمليات المدينة الذكية-ينشوان
وتضم نينغشيا العديد من المدن من بينها ينتشوان التي تعتبر الحاضرة، وهي التي تحتضن العديد من المقرات السيادية من بينها مجموعة بيت الحكمة الصيني. وتعتبر هذه المدينة اليوم من أهم الأقطاب التكنولوجية الذكية التي تسعى من خلال تطوير منشآتها الى التحوّل الى منصّة رئيسية للاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي. وتضم هذه المدينة المتطورة والمحافظة في الآن ذاته على خصوصياتها الحضارية والاجتماعية، العديد من المراكز التكنولوجية. ومن بينها ذلك المخصص لقيادة عمليات المدينة الذكية وإدارتها والذي يعتبر”دماغ المدينة”. وقد ساهمت هذه الطفرة التكنولوجية في تغيّر جذري في نمط حياة المواطنين وذلك على جميع المستويات كالنقل الذكي والصحة الرقمية والسلامة المرورية والأمن وغيرها. وهي طفرة تقنية وكذلك ثقافية تندرج ضمن هذا المشروع المتكامل والمندمج الرامي إلى تحويل كل الأنظار الى هذه القوة الناعمة والهادئة القادمة على مهل وبكل ثبات.
* يندرج هذا المقال ضمن سلسة المقالات التي نقوم إنجازها بمناسبة زيارتنا لجمهورية الصين الشعبية من 19 أوت إلى 1 سبتمبر، في إطار الدورة التدريبية حول بناء قدرات التواصل الإعلامي” التي نظمتها شركة التعاون الدولي الاقتصادي والتقني للبث الصيني CBIC تحت رعاية وزارة التجارة الصينية، لفائدة وفد إعلامي ضمّ ممثلين لوسائل إعلام تونسية عمومية وخاصة.