149
خلف القضبان يقبع الآن المحلل والمعلق السياسي مراد الزغيدي ومقدم البرامج الإذاعية برهان بسيس (وغيرهما) بعد أن قضت المحكمة بتونس في شهر ماي من سنة 2024 بسجنهما على خلفية تصريحات إعلامية. وقد دافع الإعلاميان عن نفسيهما خلال جلسة محاكمتهما وأكدا أنهما كانا بصدد ممارسة عملهما الصحفي المتمثل في تحليل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
تمثل قضية بسيس والزغيدي، عينة عن مختلف القيود التي تعترض عديد الصحفيين خلال أداء عملهم وهو موضوع ملتقى أريج السابع عشر السنوي بالأردن في الفترة ما بين 6 – 8 ديسمبر 2024 تحت شعار “صحافة دون قيود”.
النصوص القانونية والأنظمة السياسية
تشرّع بعض الأنظمة قوانين مكبلة للصحفيين وتمنعهم من ممارسة العمل الصحفي بكل حرية، وفي تونس مثلا تم سن المرسوم 54 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 متعلقا بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات وأضحى هذا المرسوم قيدا كاسرا للصحفيين وخاصة الفصل 24 الذي يحتوي على عدة عبارات غير دقيقة وقابلة للتأويل.
وفي مقال نشره أستاذ القانون أيمن الزغدودي سنة 2023 بعنوان “ضربة جديدة لحرية التعبير في تونس” يؤكد أنه على الرغم من أن المرسوم جاء في إطار مكافحة الجرائم الإلكترونية مثل القرصنة والاحتيال وسرقة البيانات على الإنترنت ألا أن الملاحقات القضائية استنادا للمرسوم 54 طالت عديد الصحفيين نذكر منهم الصحفية منية العرفاوي بسبب نقدها لوزير الشؤون الدينية، وكذلك الصحفي نزار بهلول بسب مقال نشره نقد فيه رئيسة الحكومة.
ورغم نقاط إيجابية عديدة حققتها تونس في مجال الحريات على غرار الهيئات المستقلة الدستورية، كالهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، وتنظيم أول مناظرة تلفزية للانتخابات الرئاسية في سابقة عربية إلا أنها شهدت انتكاسة، إذ تراجعت بـ21 مرتبة سنة 2022 وفقا للتصنيف السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود المتعلق بحرية الصحافة.
ملكية وسائل الإعلام والخط التحريري
مَن يملك وسائل الإعلام؟ من يديرها؟ ما الأجندات الخفية وراءها؟ وما هو خطها التحريري؟ تحيل الأجوبة عن هذه الأسئلة إلى تحديد توجهات الوسيلة الإعلامية وتكشف في بعض الأحيان عن وحش كاسر يتربص بالصحفيين. في تونس، أطلق الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أول قناة تلفزية عمومية في عام 1966. وبعد 28 عاما، في عهد زين العابدين بن علي، تم إطلاق القناة الوطنية الثانية (قناة 21). ظلت الدولة تحتكر ملكية وسائل الإعلام حتى عام 2005، حين أطلقت أول قناة تلفزية خاصة، وهي قناة حنبعل، التي أسسها أحد رجال الأعمال المقربين من النظام الحاكم.
وأدى احتكار الدولة لوسائل الإعلام إلى نمطية وتحيز في المحتوى الإعلامي، مما أدى إلى غياب التنوع في الآراء، والأفكار، والتحقيقات الجادة وصحافة الجودة وبالتالي، تقييد الصحفيين بخط تحريري موحد.
وقد برهنت تغطية وسائل الإعلام العالمية للحرب الاخيرة على غزة مثالا على تأثير ملكية وسائل الاعلام وخطها التحريري على الصحفيين .فقد نقل موقع الجزيرة نت اتهامات لصحفيين في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لمؤسستهم بالتحيز لإسرائيل، وبتقديم صورة إنسانية للضحايا الإسرائيليين، بينما تم تجاهل معاناة الفلسطينيين.
وفي ذات السياق نستحضر خبر استقالة الصحفي التونسي بسام بونني من هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، حيث أعلن ذلك عبر تغريدة على صفحته الرسمية “فايسبوك” ، قائلاً: “تقدمت صباح اليوم باستقالتي من هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي لما يحتمه عليّ الضمير المهني”.
الوضعية الإقتصادية لمؤسسات الإعلام
تساهم الوضعية الاقتصادية الهشة لوسائل الإعلام التونسية في خلق ظروف اجتماعية صعبة للصحفيين، حيث يعمل العديد منهم دون تغطية اجتماعية وبأجور منخفضة.
وفي هذا السياق، أشار نقيب الصحفيين التونسيين زياد الدبار في لقاء نظمته نقابة الصحفيين والاتحاد الدولي للصحفيين وجمعية “صحافة ومواطنة” و”صحفيون بلا حدود” حول “كيف ندعم صحافة الجودة” يوم 7 سبتمبر من العام الجاري، إلى أن تقديرات دراسة أعدتها النقابة ستُنشر في نهاية العام الجاري، تؤكد أن عددًا كبيرًا يقدر بـ80 في المائة من المؤسسات الإعلامية قد تغلق بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة.
النفاذ الى المعلومة
في تقرير ”النفاذ إلى المعلومة.. بين القانون وتحديات التطبيق” أصدرته أنا يقظ في تونس سنة 2018 ، تطرقت المنظمة الى مجموعة من الاستثناءات المتعلقة بحق النفاذ الى المعلومة والتي تهدف الى حماية بعض المصالح العامة وبعض الحقوق لكن اعتبرت ان ذلك يعد من الناحية النظرية فحسب. وأكدت في تقريرها أن الادارة التونسية تتجه نحو التعسف في استعماله واشارت ألى أن وزارة الدفاع بتونس تجابه أغلب مطالب النفاذ الى المعلومة متعلله ” باستثناء الامن الوطني .”
تعد المعلومة القلب النابض للصحفي، و مادته الاساسية للعمل ويؤدي حجبها الى تقييد عمله بالضرورة.
الاخبار الزائفة والذكاء الاصطناعي
يجابه الصحفييون يوميا كما هائلا من المعلومات، وبات اليوم التحقق من مدى صحتها رهانا خاصة مع تنامي وسائل التواصل الاجتماعي وتطور الذكاء الاصطناعي واضحى من السهل اليوم من خلال عديد التقنيات التلاعب بالصورة والصوت. وادى ذلك الى استفحال ظاهرة الاخبار الزائفة التي اصبحت تشكل قيدا للصحفيين وتحمللهم اعباء اضافية للتثبت والتحقق من المعلومات.
سبل الاستمرار في ظل القيود الراهنة
يعدّ تعزيز الأداء المهني للصحفيين من خلال التكوين الصحفي والقانوني والتقني والعمل على تطويره من خلال المشاركة في عدة دورات تكوينية من أهم السبل لكسر القيود الراهنة.
علاوة على ذلك، يعد العمل على إلغاء العبارات القانونية الفضفاضة وغير الدقيقة أمرًا ضروريًا، حيث يمكن أن تؤدي إلى تأويلات غير صحيحة للنصوص القانونية. ويتعارض استخدام هذه العبارات مع التعليق العام رقم 34 لسنة 2011 الصادر عن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، الذي يؤكد على ضرورة صياغة القوانين بدقة ووضوح.
ويعتبر إرساء مجلس الصحافة متكون من عديد الجهات (حكومية، مجتمع مدني ..) والعمل على تعزيز سبل التعديل الذاتي من الخطوات المهمة لتعزيز معايير العمل الصحفي وضمان احترام القيم المهنية.
مريم حكيمي
صورة: AP