“نحن الصور الأكثر بشاعة بهذا العالم الانقراضي” كلمات من نص مسرحية “التابعة” للمخرج توفيق الجبالي تردد صداها في أحشائي حتى كدتُ ألفظ قلبي من فرط العجز…
هذه الكلمات التي أعلنت بداية نهاية المواجهة مع الذات، بعد أن سقطت كل أوراق التوت وبدت الحقيقة عارية إلا من مرارتها لم تتلاش واخترقتني أكثر فأكثر حينما تهاطلت على الركح صور أطفال غزة الذين التهمتهم آلة الحرب الصهيونية…
تتالى الصور والضحكات وتذوي الأحلام والحكايات على ركح التياترو، حيث صرخت كل التفاصيل أننا لسنا بخير وأننا غارقون في متاهة من الوهم تنتهي عند رموز كوفية يرتديها طفل صعدت روحه إلى السماء قبل أن ينهي ضحكاته.
ليسوا أرقاما في سجل الوفيات، هم سيل من الحكايات والأماني والأحلام والضحكات والدموع، هم الحقيقة الوحيدة في وجه زيف العالم، هم من استطاعوا أن ينسفوا كل كذبات حقوق الإنسان.
يمطر الركح صورا لصبيان وصبيات سافروا إلى السماء وتمطر السماء في الخارج وتحدث قطراتها المرتطمة على سقف التياترو صوتا يحاكي دقات القلوب المثقلة بالوجع وتنحسر الدموع في مقلتي حياء من بكاء قلبي…
تتعالى الموسيقى على الخشبة، تنخر الوجع فينا وتتمنع العبرات، تمنيتُ أن تلسع حرارتها وجنتي لأتخلص من حالة الارتباك التي تملكتني طيلة المسرحية وعدلت عن أمنيتي، فما جدوى البكاء في عالم لا يهزه رحيل الأطفال تباعا.
فوضى حواس اجتاحتني خلال المسرحية التي تتلاعب بالمفردات والتأويلات والحالات في محاكاة لباعث الروح فيها توفيق الجبالي الذي يجيد خلق الوضعيات المريحة للانتشاء بالألم على وقع الحقائق المتعرية تباعا.
وجه آخر للمسرحية تحضر فيه التراجيديا الفلسطينية في تناغم مع العنوان الذي يحيل في جانب منه إلى “اللعنة” وأي لعنة أقسى مما نعيشه اليوم، عاجزين أمام طوفان الموت في فلسطين.
بين المحلي والكوني يخلق الجبالي للعامية التونسية أجنحة تحلق بها خارج حدود اللهجة وتجعل منها وسيلة للتعافي والتشافي، للبوح والاعتراف، سدا أمام كل الأجوبة التي تغرق الذات في الزيف والكذب…
“لاباس لاباس” (بخير) تردد الشخصيات على الركح بأصوات أقرب إلى البكاء فتكسر ما تبقى من جدران الوهم، وتعانق أصواتها صوتنا الداخلي ونطبق جميعنا صرخة مدوية بحجم الوجع “لسنا بخير”.
أسئلة معلقة بلا أجوبة خير من آلاف الأجوبة التي لا تزيدنا إلا بشاعة وتشوها، فكرة تتعزز على امتداد المسرحية التي يتلبَس فيها الضحك بالبكاء على أعتاب تشريح للواقع الملعون..
صور تستحضر الثورة التونسية، حقائب تؤشر لسفرنا الدائم نحت أنفسنا ووطننا، ستائر لا تحجب شيئا، طاولة لا تستوي وكل النقاشات عوجاء عقيمة، أوشحة تتقاذفها الحكايات وسط دائرة من الضبابية المتعمدة وكرسي متحرك يسندنا حينما تتالى الخيبات.
لا شيء واضح، الإنسانية تتأرجح، المثقف يقاوم دون جدوى، دائرة مفرغة تغزو العوائق تجاويفها، يفصَلها الممثلون على الركح ويلحون في ذلك وتتعاظم الهوة بينهم وبين المثقف الذي يجرفه التيار …
أحاديث بالعامية التونسية تأتي على موضوعات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تمعن الشخصيات في تبسيط المواضيع حد تسطيحها فتغدو مفرغة من معانيها، تستفزك وتربكك وتضحكك فتفهم المغزى كله.
الشخصيات التي تقمصها ممثلون تقلبوا بين الوضعيات بسلاسة، نصبت المحاكم للواقع على طريقتها وكانت الستائر مشانقا وبرزخا بين الحياة والموت، برزخ يطل منه المثقف على سجيته محاولا الانتصار لنفسه وللإنسانية.
لم يكن للمسرحية تسلسل واضح، كانت تحاكي ذهني المشوش، تحاكي خلوتي معي، صراعاتي مع نفسي، محاولاتي البائسة لتخطي الواقع، من مشهد لآخر كنت “التابعة” لتفاصيلها وكلما شرَعتُ بابا في ذاكرتي تبعتني.
نصا وسينوغرافيا وتمثيلا وموسيقى وكوريغرافيا، أمعنت المسرحية في تعرية الواقع وإلقاء الضوء على مكامن الوحشية والبشاعة فيه مراوحة بين أزمة وأمكنة مختلفة وموضوعات متعددة..
كل شيء قابل للسخرية والتندر في المسرحية وكل شيء ينتهي عند ضحكات الأطفال الشهداء الذين اختزلوا فظاعة الواقع الذي نحياه اليوم ونحن على شفا الهاوية التي تلتهم إنسانيتنا على مهل.
حالة من الركود والجمود تعصف بالواقع وكأن عقارب الساعة توقفت عن الدوران أو صارت تدور عكس الطبيعي فلا شيء يتبدل أو يتغير سوى تمظهرات الموت الذي صار حيزا للإبداع وسط خضوع وسكوت وخيانة وعمالة وتواطؤ…
“ التابعة " Malédiction لتوفيق الجبالي بمشاركة : – يسر القلعي - ـ ليلى اليوسفي – – زياد العيادي – - سيرين بن يحي – ياسمين الديماسي - مهدي الكامل – سرور الجبالي نص و اخراج : توفيق الجبالي ساهم في الكتابة : عياض الشواشي و امال الرامي مساعدة المخرج :امال العويني تصميم المشاهد : مروان الروين تصميم الاضاءة : صبري العتروس المؤثرات الصوتية و البصرية و التوضيب ا لعام : وليد حصير تنفيذ الاضاءة : محرز زيدان تنفيذ الملابس :بسمة الذوادي سينوغرافيا: توفيق الجبالي و صبري العتروس ادارة الانتاج : سرور الجبالي – ايناس الجبالي اعلام : رحمة الفخفاخ اعادة : التياترو و التياتر ستوديو - 2024