انتظمت صباح اليوم، ببادرة من جمعية علوم وتراث بالقلعة الكبرى وبالتعاون مع الجمعية التونسية للدراسات الصوفية، ندوة فكرية بعنوان “الطرق الصوفية وأبعادها الدينية والثقافية والفنية“. وقد ضمّ هذا اللقاء الذي التأم بفضاء الاجتماعات بقصر بلدية المكان ثلة من أهم الباحثين* والدارسين في الشأن الصوفي من أساتذة ومؤرخين وباحثي دكتوراه هذا فضلا عن وجوه ثقافية ومفكرين من أبناء الجهة.
على امتداد أكثر من خمس ساعات تباحث المشاركون في هذا الملتقى الفكري الذي تميّز بثراء مضامينه ودقّة المعلومات المقدّمة في علاقة بالعديد من الإشكالات والحيثيات التي رافقت نشأة الطرق الصوفية وتطورها وتمظهراتها في العديد من الأقطار الاسلامية ومن بينها تونس. ولعلّ ما يُحسب للطرف المنظم وخصوصا منسق هذه التظاهرة، حسن بن علي، هو حرصه الشديد على تنويه المداخل الى هذا الموضوع الشائك والممتد الأطراف، حيث أتى المحاضرون بكل اقتدار على مجمل الجوانب المتعلّقة بهذه الظاهرة الدينية التي أثّرت في المجتمعات الإسلامية من المشرق إلى المغرب وصولا إلى أفريقيا جنوب الصحراء وتأثّرت أيّما تأثّر بها. وسنفرد هذا المقال بالمحاضرة الافتتاحية لهذا الماتقى والتي أمنها الدكتور توفيق بن عامر وكانت بعنوان “الطرق الصوفية : النشاة والتطور”.
أهل الصِّفّة
في مستهل حديثه عن العوامل التاريخية والثقافية التي ساهمت في نشأة الطرق الصوفية في العالم الإسلامي خلال الجلسة الاولى لهذا الملتقى والتي ادارها بكل تميز واقتدار الدكتور عبد الجليل سالم وزير الشؤون الدينية سابقا والاستاذ بالجامعة التونسية، اعتبر رئيس الجمعية التونسية للدراسات الصوفية وعضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بيت الحكمة، الدكتور توفيق بن عامر، أن الطريقة الصوفية هي مؤسسة تقوم على أركان ثلاث وهي الرسالة التي تنوي هذه المؤسسة ابلاغها والمشرفون على هذه المؤسسة وثالثا موطن هذه المؤسسة أو مقرها. وفي سرد الأحداث التاريخية التي حفّت بالنشأة الأولى لهذه الظاهرة روى بن عامر، وهو أحد رواد الدراسات الفلسفية في بلادنا وفي الوطن العربي والاسلامي، الأحداث المرتبطة بنشاة هذه الجماعة من المصلين الذين كانوا يلتقون في عهد الرسول بالمسجد في حلقات ذكر جماعي بعد الصلاة في مكان يطلق عليه “الصِفّة” وهي عبارة عن دكّة بالمسجد يجلس عليها هؤلاء المصلّون. وبحسب المحاضر فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطف عليه باعتبارهم من ضعفاء الحال فاصبحوا يسمون بـ”أهل الصِّفّة”. ونفى بن عامر في هذا الصدد أن يكون مصطلح التصوف مشتق من كلمة الصفّة على عكس ما أشيع من قبل العديد من الباحثين.
وفي سياق تطور المنهج الصوفي يرى بن عامر أن اجتماع المصلين بالمسجد حول الذكر، أي القرآن، تطوّر فيما بعد ليصبح تسبيحا وتحميدا لتصبح المواظبة على هذا الذكر الجماعي شيئا فشيئا أكثر من المواظبة على الصلاة، وقد استند المحاضر في ذلك الى الآية القرآنية التي تضع مرتبة الذكر أعلى من مرتبة الصلاة الى الآية 45 من سورة العنكبوت “اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ”.
واعتبر توفيق بن عامر صاحب كتاب “الوصل بين الضفاف” الذي جاء في جزء منه على التجربة الصوفية بتونس، أن هذه الشعائر تطورت لتتجاوز مجرد قراءة أوراد قرآنية بل لتشمل أيضا تمثّل وجود الله داخل روح هؤلاء “القرّاء” الذين أصبح لهم اتجاها زهديا في منتصف القرن الأول للهجرة. حيث أصبحوا “متزهّدين في المأكل والملبس والكلام والصوت والدنيا بأسرها واصبح يتملّكهم خوف من المصير و يتملكهم تأنيب الضمير” حيث استنكر هؤلاء أن ما حدث من تقاتل بين المسلمين معتبرين أنهم ارتكبوا الكبائر بقتل بعضهم البعض وأن الفتنة التي اندلعت بين المسلمين هي بمثابة الخروج عن الدين بحسب قول المحاضر. وهو الأمر الذي حدا بالمختلفين عنهم تسمية هؤلاء القرّاء بـ”معتزلة” السياسة رغم احتجاجهم الصامت عن السياسة المتبعة آنذاك بل أيضا على “الثراء الفاحش” للمسلمين في تلك الفترة هذا فضلا عن استبداد بني أمية الذي زاد في وتيرة احتجاجهم.
إصلاح الباطن
ومع بداية القرن الثاني انتقل حال الزهّاد من “زهد عملي” الى “زهد في الزهد” ومن هنا، يرى المحاضر، جاءت ظاهرة “إصلاح الباطن” حيث أصبح هؤلاء “ينحتون القيم انطلاقا من القرآن مثل “النفس اللّوامة”. ويرى توفيق بن عامر أن القرن الثالث شهد المنعرج الجديد في هذه الظاهرة إذ لم يقع “الاكتفاء بالتطهر الباطني” بل سيفضي هذا التطهّر إلى “المعرفة الصوفية” أو “المعرفة اللّدنية” (معرفة من لدن الله). ولعلّ أول من اسس لهذه المدرسة هو معروف الكرخي في بغداد (توفي سنة 200 هـ). حيث كان هذا الشيخ صاحب الكرامات كما عُرٍف عنه، يرى أن التصوّف هو “الأخذ بالحقائق” متجاوزا بذلك مرحلة “التطهّر” (Purification).
وعلى ذلك فقد اعتبر المحاضر صاحب كتابي “دراسات في الزهد والتصوّف” و”التصوّف الإسلامي إلى القرن السادس الهجري” أن هناك اتجاه جديد يعتبر “التصوّف علما الى جانب علم الفقه وعلم الكلام”. وهو ما اعتبره بن عامر من قبل “ردّ فعل جديد على الفقهاء والمتكلّمين”. وبالتالي فقد “ظهر اتجاه تعليمي في التصوف واصبح لكل من الصوفية مدرسته وأستاذه حيث كانوا يقولون “من ليس له أستاذ فاستاذه الشيطان”.
الاستقلال عن المساجد
وفي باب استعراض التطور التاريخي لظاهرة التصوف، أشار بن عامر الى أن هؤلاء الزهّاد قد بدأوا شيئا فشيئا “يستقلون عن المساجد ويتخذون لهم مقرات جديدة توقيا من السلطة” من ذلك مثلا أن أبو القاسم الجنيد كان يتخذ سردابا يلتقي فيه بمريديه. ويرى بن عامر أن أول درس في التصوّف في موضوع التوحيد قام به السري السقطي (توفي سنة 257 هـ). ومن ثمّ نشأت مدرسة ثانية للتصوّف بعد تلك التي نشأت في خراسان مع حمدون القصّار (توفي سنة 271 هـ) وهي مدرسة معروف الكرخي ببغداد.
ومع هذه التحوّلات نشات بحسب المحاضر، طوائف وليست طرق وذلك على عكس ما يدعيه البعض كما بدأ التفكير في “التقعيد والتقنين” ومن ثمًّ بدأ التفكير في “الطريق الصوفي وليس الطرق الصوفية” أي “الطرق الى الله” انطلاقا من استلهام التجربة النبوية في حادثة الاسراء والمعراج.
ويمضي الدكتور توفيق بن عامر قدما في تحليل نشأة وتطوّر المدّ الصوفي معتبرا أن “في هذا العصر بدأ الاستقلال عن المسجد لانه رمز السلطة ويدخله من هب ودب وهو فيه دروس الشريعة والاحكام وهو ليس مجال اهتمامهم”. واعتبر بن عامر أن أول من بادر إلى تأسيس مقر خاص بالصوفية هو أبو سعيد ابن ابي الخير (توفي سنة 440 هـ) الذي اتخذ منزله في خراسان مقرا للصوفية. وما يحسب لهذا الشيخ، كما يرى المحاضر، أنه نجح في تنظيم الطريق الصوفي وأصبح فيه درجات ونظام يجعل من سالك هذا الطريق يرتقي في مقامات متتالية تنتهي به الى مرحلة الصفاء الروحي.
نكبة التصوّف
غير أن هذا التطور في مسار التصوّف كان محفوفا بالعوامل الحاسمة في تاريخه حيث اعتبر الدكتور بن عامر أن “هناك طائفة يتصدرها الحلاج بن منصور (توفي سنة 858 هـ)، وهو تلميذ الجنيد والسقطي، “كشفت ماكان الصوفية يكتمونه في انفسهم ورفعت لواء المعارضة للسلطة دون تقية”، وهو ما دفع السلطة بتعقّب الصوفية في كل مكان مما اضطرهم إلى الهروب إلى المغرب وإلى مصر”. ومن هنا، يقول بن عامر، “جاءت نكبة التصوّف”. غير أن هذا التصادم مع السلطة تحول في وقت ما إلى تصالح حيث وُجِد منظّرون لهذا التصالح من بينهم أبو عبد الرحمان السلمي (توفي سنة 412 هـ) وأبو القاسم القشيري (توفي سنة 465 هـ) وابو حامد الغزالي (توفي سنة 505 هـ).
و يعتبر بن عامر أنه مع حلول القرن الخامس للهجرة فرض الصوفيّة على أنفسهم نظام يقيهم من هذا الشر وتم إقرار نظم تمنع الصوفية من الزيغ والخروج عن الصراط ومن هنا بدأ تأسيس الطريقة الصوفية. ويعتبر الشيخ عبد القادر الجيلاني هو مؤسس الطريقة القادرية وهي أقدم طريقة في تاريخ الإسلام وهي “التي أعطت اللون للطرق الصوفية من خلال وضوح النظام وكيفية الانتماء الى الطريقة بمختلف مراحلها. وقد تفرّعت هذه الطريقة في المشرق الى الطرق الرفاعية والبدوية والدسوقية والخلواتية.
العقائد الثلاثية
وبحسب الدكتور بن عامر لم يكن المغاربة بمعزل عن هذا المخاض حيث ظهر أعلام للطرق الصوفية في العهد الموحدي وفي تونس في العهد الحفصي. ويرى المحاضر أن مركز الثقل في الفكر الصوفي كان بين المغرب والأندلس اين تاسست مدارس مثل مدرسة ابن قسي (توفي سنة 546 هـ) وابن برّجان (توفي سنة 536 هـ). ولم يقتصر الأمر على مجرد المدارس بل إن هذه الحركة الصوفية قامت بثورة سياسية سُمّيت بثورة المريدين في الأندلس.
ويواصل المحاضر سرد التطور التاريخي للمد الصوفي في بلاد المغرب معتبرا أن ظهور شخصية شعيب أبي مدين (توفي سنة 594 هـ) كان مفصليا في “أن تصبح العقائد في المغرب والأندلس ثلاثية: عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيدي السالك”. وبحسب ال بن عامر “فقد تم اختيار مسلك الجنيد لما فيه من احترام للتسنن والتوفيق بين ما يسمى الحقيقة والشريعة”. وقد تمدد هذا المنحى الصوفي الى أفريقيا جنوب الصحراء وكان له الفضل في انتشار الإسلام في هذه الربوع.
وفي نهاية مداخلته لم يغفل المحاضر الى ضرورة التمييز “بين الطريقة الصوفية ووجود زاوية لها من ناحية، وبين المقامات والاضرحة وهي أنواع من ناحية أخرى. ذلك أنه ليس كل مقام ولا كل ضريح هو لصوفي ، كما أن هناك مقامات وأضرحة رمزية لصوفية في مكان آخر. كما وجب التمييز بين مقامات لصحابة وصلحاء وبين الصوفية. وعلى ذلك دعا بن عامر الى أهمية القيام بدراسة ميدانية للطرق الصوفية.
وختم الدكتور توفيق بن عامر مداخلته التي لاقت تجاوبا كبيرا من قبل الحاضرين بالاشارة الى أن الصوفية بدأت في في الضمور في العديد من البقاع الاسلامية نتيجة معارضة المد السلفي لهذه الطرق وعامل الحداثة التي اكتسحت المجتمعات وغيّرت البنى الاجتماعية والفكرية والثقافية والنفسية.
نواصل لاحقا نشر متابعة بقية المداخلات ضمن اللقاء الفكري حول "الطرق الصوفية وأبعادها الدينية والثقافية والفنية"