في بلدة بيمبونت بمنطقة بريتاني الفرنسية، تتشكل ملامح حكاية فيلم “قابل البرابرة” للمخرجة جولي دلبي وهي تستمد أهميتها من تجذرها في موضوع راهن هو اللجوء زمن الحرب التي استنزفت الأرواح حتى صارت تبحث عن ميناء سلام خارج الأوطان المجروحة.
هذه الرحلة نحو الأمان ليست دائما وردية إذ تعقبها مشاكل وإشكاليات كثيرة تتقاطع عند التمييز والعنصرية التي تتعاظم حينما يتعلق الأمر باللاجئين من الدول العربية إلى الدول الغربية حيث تسقط كل التوقعات في الهوة بين الضفتين.
مع انطلاقه يتوشح الفيلم بمسحة جدية يسرد فيها عمدة البلدة موقفه من الحرب في أوكرانيا قبل أن يتصاعد إيقاع الكوميديا حينما يستعد الجميع لقبول اللاجئين الأوكرانيين مقابل إعانات حكومية.
فيما تتأهب البلدة لاستقبال مهاجرين أوكرانيين تجري رياح الواقع عكس توقعات الأهالي ويصل مهاجرون سوريون وتتهافت المواقف الكوميدية عند التكهن بطباع الوافدين الجدد.
عند وصول عائلة “فياض” القادمة من سوريا يوشح أحدهم باب منزلهم بعبارة “البرابرة” أي الهمجيين وهي عبارة تعكس نظرة البعض للعرب ولكن أفراد العائلة حاولوا دحض هذه الصفة طيلة الفيلم.
ومع تواتر الأحداث تتهاوى المسلمات والأحكام المسبقة على إيقاع تساؤل صارخ “من هم البرابرة؟” وتتسرب الإجابة تباعا ليتبين أن المتشددين بحقوق الإنسان وحرياته همجيون بعنصريتهم وعنجهيتهم.
على امتداد 101 دقيقة، تحكي المخىجة جولي دلبي الحقيقة في كوميديا سلسلة تتخذ في بعض المواضع شكل الدراما التي تزعزع الوجدان وتلامس قضايا جدلية ومتشعبة دونما تعقيدات.
مساحات غير آمنة تخضع لأكثر من تأويل وتتباين حولها الأراء تحركت فيها دلبي وعرت في ثناياها الواقع ولم تنكر أيا من تفاصيله وهي تلاحق جمالية القرية وقبح العنصرية الذي يتلاشى شيئا فشيئا في اتجاه النهاية.
الكوميديا، المشاعر، والتفكر، ثلاثية تتعزز على امتداد الفيلم الذي يشدك إليه شدا ويسرك بجمالياته التي تخاطب العقل والعاطفة وتغمر كل الحواس على إيقاع هالة من الضحك تتشكل عند جدران من العنصرية.
حالة التوتر التي سادت البلدة إثر حلول لاجئين سوريين بدل الأوكرانيين لم تؤثر على انسيابية الكوميديا بل عمقتها وكأن العمل يضحك على كل أولادك الذين يرمون الناس بالعنصرية وهم أهلها.
الطبقية في اللجوء هو التيمة الرئيسية للفيلم الذي يتطرق إلى مشاكل اجتماعية وسياسية وغيرها، ومنها تسائل العنصرية الفرنسية ما ظهر منها وما بطن بأسلوب ذكي وساخر في الآن ذاته.
وكلما اقترب الفيلم من النهاية يخبرنا صراحة أن الهمجيين هم العنصريون ويعيد صياغة كل التمثلات المسبقة عن الآخر ويخلص الهوة بين أهل البلدة والعائلة السورية اللاجئة اعتمادا على خطاب كوميدي اجتماعي.
وإن يدور موضوع الحكاية في فلك السياسة إلا أن مخرجته حصرته في زاوية إنسانية بحتة عرت بها كل الزيف الذي يعتري خطاب الحقوق والحريات الرنانة ويكشف علل المجتمعات الغربية التي تتدعي التحضر.
بأسلوب بسيط وسلسل تمكن الفيلم من طرح قضية راهنة لا يخلو الخوض فيها من جدل، عبر كتابة غير متكلفة وغير متعالية تراوح بين الضمني والصريح وتراعي اختلاف جمهور الفيلم.
وأما أداء الممثلين فاتسم بحالة من التناغم والانسجام التي ظهرت في كل المشاهد وفي كل الانفعالات الممتدة من الهدوء إلى الغضب ومن الحزن إلى الفرح، وهو ما يعكس الاختيار الجيد للمثلين.
شخصيات متلونة لكل حكاياتها وخلفياتها تتقاطع مساراتها وتتفرع لتتناثر معها خفاياها التي تغدو معروفة مع اقتراب النهاية التي اختارت جولي ديلبي أن تكون بغير لون الواقع المعتم في علاقة بمسألة اللجوء.
أمام الكاميرا ووراءها تعتنق جولي ديلبي الصدق وتعبر عما يعتمر بداخلها دون تابوهات ويسايرها الممثلون الذين شاركوها التجربة على غرار ساندرين كبرلين وريتا حايك وفارس الحلو وزياد بكري وإنديا هير وماثيو ديمي وداليا نعوس.
مفارقات كثيرة تظهر مع تواتر الأحداث في الفيلم لتنسب الأمور وتذكرنا بأن الإنسان يتأرجح دوما بين الخير والشر وأن داخل لكل منا خانات مظلمة ننبش فيها حينما يطغى قانون الغاب.
ورغم التعصب الذي انهمر في الفيلم على شكل ضحكات في غالب الوقت انتصرت المخرجة للاجئين ونفت عنهم صفت البرابرة وسدت الفجوة بينهم وبين الأهالي حينما أظهرت أحسن ما فيهم من قيم ومبادئ.
الممثلة والمخرجة والكاتبة جولي ديلبي صور وجهة نظر غير متعصبة لأي جهة أو انتماء هي فقط وجهة نظر إنسانية بحتة كسرت معها الصور النمطية والمسلمات وأثبتت أن حياة أخرى ممكنة بعيدا عن العنصرية.