رياليتي أونولاين/ جدة- “وكل شيء بينسرق مني .. العمر ما الايام.. والضي ما النني” يصدح صوت محمد منير فيما يستند حسن(عصام عمر) على كتف والدته (سما ابراهيم) ومن حولهم كلاب وديعة ويحاول الكل الصمود.
وجه “حسن” تكسوه الجراح والكدمات وعين والدته ترشح ألما وكلاهما يحاول ترميم ما انكسر داخله في حضن الآخر ويتخففان من احمالهما من على ربوة تطل على تفاصيل المدينة (القاهرة).
ملامح المشهد الختامي للفيلم الروائي الطويل للمخرج خالد منصور تختزل كل المعارك التي يخوضها الإنسان في محاولاته المتكررة لاكتشاف ذاته على ضوء المتغيرات والاهتزازات من حوله.
“حسن” شاب ثلاثيني يأسر مخاوف الماضي في جوفه، تخنقه وتدميه ولكنه لا يجرؤ على لفظها خارجه ومواجهتها إلا حينما مضى في “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”، رامبو كلبه وصديقه.
في محيط تغشاه العتمة والشحوب يعيش “حسن” رفقة والدته وكلبه ويتقوقع على ذاته قبل أن تحمله الأحداث إلى وضعيات عنيفة لم تكن لتخطر بباله، وضعيات حررته من سجن الماضي.
إضاءة خافتة وألوان تميل إلى الذبول توشح تفاصيل الفيلم الذي عرض ضمن مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ولا تتبدل إلا في المشهد الختامي في إحالة إلى الحالات الذهنية والنفسية للشخصيات وتجسيدا لمعاناتها وصراعاتها الداخلية.
مشاهد تتبدى فيها علاقة ملهمة بين الإنسان والحيوان ويخط فيها “حسن” و”رامبو” فصولا في صداقتهما قبل أن تتخذ الأحداث منعرجا عنيفا على وقع تهديدات “كارم” جار حسن(أحمد بهاء).
“كارم” شخصية عنيفة تهوى البطش، يمعن في مضايقة جيرانه ويفتعل المشاكل التي تواترت على وقعها الأحداث واتخذت نسقا تصاعديا حينما تورط معه “رامبو” وصار عدوه دون ذنب.
في مواجهة مصير رامبو المجهول، يعيد “حسن” اكتشاف نفسه، ينغمس في كنهها، يجول في خانات الماضي، يفرج عن ذكرياته، يحاول أن يتصالح مع كل شيء حوله دون ثرثرة.
حالة من التخبط تعيش على وقعها الشخصية التي جسد الممثل عصام عمر أغلبها بأداء صامت يستنطق فيها نظراته وملامح وجهه ليعبر عن ذلك البركان المستعر داخله وليكشف عن خبايا شخصيته.
في الواقع كل شخصيات الفيلم تعيش تمظهرات مختلفة من الصراع والتخبط وتحاول كل منها أن تظهر بمظهر يجعلها قادرة على ابتلاع وجعها وسد كل المنافذ أمام تسربه إلى الخارج.
“البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” تجربة وجودية تتماهى فيها محاولات إنقاذ كلب بمحاولات البحث عن الذات ورأب الصدع الذي اعترى الأرواح والعلاقات، هي نبش في الماضي وبوح ووقوف على أطلال هدم المباني المحملة بالحكايات والذكريات.
ليست المرة الأولى التي تفتح فيها السينما شبابيك على العلاقة بين الإنسان والكلب ولكن فيلم خالد منصور يستمد خصوصيته من تفاصيل الهامش التي تعمّد هذه العلاقة وتجعلها متفردة من خلال صورة صادقة عن الأحياء الشعبية في القاهرة.
شاب قليل الكلام، منطو، لا يتحرر ولا ينفتح إلا مع كلبه الذي يرافقه في عربة جانبية مشدودة إلى دراجته النارية ويضع الخوذة التي تقيه صدمات الحياة على عكس رأسه العاري فس مواجهة الاحداث.
لحظات شاعرية بين “حسن” و”رامبو” تتخللها مسحة من الكوميديا التي تدفعك إلى الضحك رغم الدراما التي تتسلل من بين التفاصيل وتعزز على إيقاع بطش “كارم” الميكاني الفض الذي لا يعترف بقوانين ولا أعراف.
في رحلة البحث عن ملاذ للسيد رامبو( السيد إسقاط ذكي للمخرج يخبرنا بأن للحيوان ذات وروح وكينونة) يرتطم “حسن” بحب قديم لم يتخلص منه كما أشياء كثيرة في حياته ولكنه يأبى أن ينبش في الماضي.
“أسماء” (ركين سعيد) شخصية أخرى تتأرجح بين عقلها وقلبها ويعمق “حسن” أزمتها لأنه لا يعينها ويأبى أن يتكلم وتستعصي عليه الكلمات ولا تشفع له شعلة الحب المتقدة في عيون حبيبته بل إن “رامبو” يتخطاه في المقدرة على التعبير والبوح.
نظرات الشوق؛ الأنفاس المفعمة بالعشق، تتفحصها كاميرا خالد منصور ثم تراوغنا لتعرض عنها فجأة وتحملنا إلى جرح نازف في ظهر “حسن”، في ماضيه، جرح مرتبط برحيل والده عن البيت دون عودة.
التخلي الذي خلف ندبة في روحه شحنه بعزيمة قطعت طريق الاستسلام إليه محاولا تأمين صديقه من مصير مجهول ولكن يبدو أن الحياة تأبى إلا أن تلاعب “حسن” بقسوة وتسرق منه كل الأشياء التي يحبها.
لكن هذه المرة يمارس “حسن” فعل التخلي بعد محاولات عديدة لإيجاد حل لا يقطع الوصال مع “رامبو” الذي تغلب على الموت في أكثر من مناسبة، ويمضي في سبيل التعافي من الماضي.
يبعثر بعض ما تبقى في ذاكرته عن والده ويركن إلى تسجيلات من طفولته السعيدة يصدح فيها صوت والده بالغناء ويحاول ترتيب فوضى مشاعره على إيقاع موسيقى تجمع الشجن بالغربة وترسم خطا واقعيا يحاول التمرد على تشاؤمه.
حالة جمالية خلقها المخرج خالد منصور ورفيقه في الكتابة محمد حسيني حبكا تفاصيلها من ليل القاهرة وحكاياته وأداء الممثلين الهادئ الثائر في الآن ذاته والموسيقى التي تستشف الدواخل والإضاءة التي تتبع الصراعات الباطنية وغيرها من التفاصيل التي صنعت خصوصيته.
الفيلم هو الروائي الطويل الأول للمخرج خالد منصور بعد إخراجه أفلاما قصيرة جابت عددا من المهرجانات الإقليمية والمحلية. وشارك منصور في التأليف الكاتب والسيناريست محمد الحسيني. ويتشارك البطولة الممثل عصام عمر في أولى تجاربه السينمائية، ركين سعد، سماء إبراهيم، وأحمد بهاء أحد مؤسسي فرقة شارموفرز الغنائية في تجربته التمثيلية الأولى في عالم السينما، بالإضافة لعدد من الوجوه الشابة وضيوف الشرف.