رياليتي أون لاين/جدة_“آية اللي تعرفوها ماتت” جملة تختزل مسارات الشخصية الرئيسية في فيلم “عايشة” الروائي الطويل الثاني للمخرج مهدي البرصاوي الذي يواصل فيه رسم ملامح واقعية تونسية من زاويته.
منذ عنوان الفيلم يقحمك البرصاوي في تساؤلات عن معنى الحياة في أفلامه بين “بيك نعيش” و”عايشة” إذ يأخذ من العامية التونسية تعبيرات ويجعل منها مداخل لأفلامه التي تراقص العقل والعاطفة على حظ سواء.
“عايشة” اسم علم وهو أيضا صفة لمن يمارس فعل العيش نواجهه على معلقة الفيلم قبل الانغماس في رحلة البحث عن معالمه على امتداد الأحداث التي تنهل من اليومي وتستنطق الأزمنة والأمكنة على إيقاع صراعات تتسرب من دواخل الشخصيات إلى العوالم المحيطة بها.
في مساءلته لتجربة الحياة في تونس التي باتت تتخذ ملامح أخرى على إيقاع حالات ووضعيات تراجيدية يرصد الفيلم تحولات مستمرة لشخصية تلاحق الحياة في مساحات مفعمة بالمفارقات.
رحلة تخوضها هذه الشخصية من الجنوب في اتجاه الشمال بحثا عن مصير آخر تتحرر فيه من السلطات التي تجثم على صدرها وتكتم أنفاسها وتصادر أي محاولة للتحرر من أسلاكها الشائكة.
على امتداد هذا المسار يلامس مهدي البرصاوي قضايا اجتماعية واقتصادية واجتماعية دون وضوح مزعج وبلا مباشرتية تقتل جانب الخيال في الفيلم الذي يسير على نسق درامي يحاكي اليومي وأحداثه المتوقعة منها وغير المتوقعة.
دائرة مفرغة تغرق فيها الشابة التي اختارت لها عائلتها اسم “آية” لم تتنصل من خدرها إلا حينما واجهت حادثا قلب حياتها حيث ظل مهدي البرصاوي وفيا للخط الدرامي لفيلمه الأول حيث لابد من هزة ترج شخصياته.
“آية” الفتاة التي تعمل في نزل في توزر تشبه فتيات كثيرات حرمهن القدر من مواصلة الدراسة فواجهن الاستغلال بأشكال مختلفة وهن يرضخن إلى السلطات التي تحاوطهن.
بينما تحاول هذه الفتاة التمرد على بعد أمتار من حادثة مأساوية يخلق السرد السينمائي الذي يولي فيه مهدي برصاوي أهمية خاصة للأمر المكانية تقاطعات بين مساراتها ومسارات الوطن ويراكن فيه لغة سينمائية خاصة به.
الكاميرا في أفلام مهدي البرصاوي تبعث في الأماكن روحا وتنزع عنها النمطية لتبدو جزءا من الحكي الذي يراوح بين التلميح والتصريح ويترك مساحات بيضاء تراود خيال المتفرج وتقحمه في خبايا الشخصيات.
عند بوابة حياة أخرى تمنح “آية” لنفسها اسم “أميرة” تعبيرة عن رغبة دفينة في أن تنال الحياة التي تستحقها وتتخلص من الماضي بكل ما يحمله من صور قاسية عن خدمتها في النزل.
لكن يبدو أن القدر يأبى إلا أن يلاعب الفتاة فتتهافت المراوغات في السيناريو ويطفو اسمها القديم على أحداث تراجيديا أخرى تورطت فيها حتى صارت تتمزق بين “آية” و”أميرة”.
هذه الشخصية المحبوسة في فاصلة بين الماضي والحاضر تجسدها الممثلة فاطمة صفر التي تقلبت بين انفعالاتها واستنطقت خلاياها ومسامها لتتماهى معها وتتشبث برغبتها في الانعتاق رغم أكداس الأغلال من حولها.
واختيار فاطمة صفر لهذا الدور في محله إذ تجيد التدرج في اللعب والتلاعب بمنسوب الأداء على نسق هادئ بلا مبالغة ولا تصنع وهو ما ينسحب أيضا على بقية الممثلين نضال السعدي وهالة عياد وياسمين الديماسي وبحري الرحالي وسوسن معالج وغيرهم.
التجربة المسرحية حاضرة بثقلها في هذا الفيلم الذي يمثل مساحة يتشابك فيها الإنسان والوطن والفرد والمجتمع وهو ما يظهر في الأداء الموزون والمتلون على إيقاع النسق الدرامي غير الخطي.
وفي “عايشة” يظهر الممثل نضال السعدي بمظهر آخر يقطع مع شخصياته السابقة التي ظهر بها على مستوى الشكل وعلى مستوى مضمون الشخصية التي يخوض تفاصيلها بكب هدوء.
الممثلون جميعهم تماهوا مع القصة التي يواصل فيها خالقها النبش في عمق المجتمع التونسي، يعريه، يتفحص جراحه ويضغط عليها حتى تستفرغ ما علق بها من شوائب ويحمله إلى فصول أخرى من مساءلة الواقع.
أحداث حقيقية تتسلل من سيرورة الحكاية وتتشرع فيها خانات الذاكرة عن أخبار تداولها الإعلام عن فتاة زيفت وفاتها وعن فتى قضى في ملهى ليلي على يد أعوان الحراسة، فيما تواصل الشخصية الرئيسية البحث عن نفسها.
الفساد في المؤسسة الأمنية، المحسوبية والولاءات، المخدرات، العنف، الاستغلال الجنسي وغيرها من المواضيع ظهرت في الفيلم الذي تخال معه أن الكاميرا تقف على أعلى نقطة في تونس تتطلع إلى عللها وتقترب منها شيئا فشيئا لتلتحم ب”عايشة”.
إسقاطات ذكية وجريئة للفيلم على الراهن التونسي، يشخص فيها المخرج الوضع من خلال سيناريو محبوك وشخصيات لا تنفك تخلق المعاني وتخط الرسائل في مواجهة تمظهرات العنف.
على إيقاع كل المنعرجات التي مرت بها الشخصية الرئيسية من “آية” إلى “أميرة” ف “عايشة” تتساءل هل يجب أن نعانق “الموت” لنحيا ؟ فالموت كان دائما نقطة تحول في حياتها.
وإن لم تصل إلى ميناء السلام الذي نشدته منذ بداية رحلة بحثها عن ذاتها حينما هب إليها الموت فجأة فإنها نالت مرادها وابتسمت ابتسامة رضا حينما قررت أن ترمي ما سبق في حضن موت قررته فامتلكت مصيرها بيدها.