مساحات استيطيقية تشكلت على ركح مسرح التياترو وتناثرت معها تيمات الجنس والجنسانية والثورة والربيع على إيقاع مسرحية “2034 : اقتراح متواضع” للمخرج منصف الزهروني.
عمل مسرحي آخر يقلّص فيه الزهروني المسافات بين المسرح والسينما ويختبر شاعريته كتابة وأسلوبا إخراجيا وهو يحفر في عمق المجتمع التونسي في أبعاده الواقعية والسوريالية.
مرة أخرى يجيد الزهروني التلاعب بالزمن والكلمات ويراقص التاريخ على شفا تساؤلات وجودية تتصاعد على وقع خطوات الممثلة فاطمة الفالحي وهي تحرر الخشبة من ماديتها وتحاوطها بهالة من الرمزيات والدلالات.
في الماضي، ألقى منصف الزهروني شخصياته في يم من التراجيديا من “عبور” إلى “كنيسة الموت الرحيم، قبل أن يتخطى الحاضر إلى المستقبل حيث يغمس “2034 : اقتراح متواضع” في الكوميديا.
هذه الكوميديا التي تتجاوز الزمن الحالي وتثب عشر سنوات إلى الأمام يلفها سواد غيبه المخرج في ثنايا السينوغرافيا ولكنها تأبى إلا أن تستدر الضحكات والقهقهات التي تعوض أغلبها دمعات ظلت طريقها إلى المآقي.
حقيقة أخرى مطرزة بالكوميديا والسخرية والعبث والسوريالية، تتبدى في “اقتراح متواضع 2034″، المسرحية التي كلما انغمست فيها كلما صرخ صوت بداخلك أن هذا الاقتراح عظيم ومتفرد.
هذا الاقتراح الذي يتجاوز مفهوم الزمان في محاولة لإعادة صياغته وإنتاجه بشكل يخفف من دراميته، يستدر ابتسامتك وهو يغرز أصابعه اللامتناهية في الأوجاع المزهرة على إيقاع تكرر المأساة في شكل مهزلة.
على امتداد هذا الاقتراح تمسك الممثلة فاطمة الفالحي خيوط الحكي وتتماهى مع شخصيات متعددة تستحضرها حينما تسكت شخصية “نيروز” عن الكلام وتبدي فيها قدرة على التقمص المقنع.
مساحات صوتية مرنة، وتعبيرات جسدية متدفقة كانت زاد الفالحي في أدائها المتعدد الذي جعلت الجمهور جزءا منه بإنبائه بتغيير الشخصيات على أعتاب تغيير الأزياء الذي صار مفصلا في العرض.
الأزياء في العرض ليست مجرد أقمشة تلف أجساد الشخصيات المختلفة وإنما هي امتداد لأفكار ناقدة وهدامة لكل المسلمات وإحالات لمواضيع عن الجنس والجنسانية وعن الجسد في مفهومه الشامل.
فيما ينساب النص تتضح معالم حكاية “نيروز الرزقي”، شابة تونسية من مواليد 1988، من عائلة ريفية، أنهت تعليمها في دولة أجنبية وخاضت تجارب مهنية مهمة في الخارج قبل أن تحزم حقائبها وتعود إلى وطنها.
وذات رهان بين والدها ووالدتها تقدمت للعمل في وزارة الشؤون الثقافية وأفضت بها الصدفة إلى رئاسة ديوان الوزير حيث ثلاثة موظفين لا جدال حولهم ولا معهم لما يحظون به من نفوذ وهو ما ينبئ بحالة من التصادم.
أحد المشمولين بالعفو العام من الإسلاميين، تتعلق به قضايا تحرش، وفتاة تحصلت على وظيفة مرموقة لمجرد انتمائها لعائلة معروفة، وأخرى تحاكي الأخطبوط في تعدد علاقاتها في دوائر المال والأعمال والمجتمع المدني، توليفة عبثية تقاطعت عندها الشاشة والخشبة.
فاطمة الفالحي تتقمص نيروز على الخشبة وتواجه البقية عبر فيديوهات تظهر مرارا على الشاشة وتتشعب التهم وتتشابك ليظهر الفساد والمحسوبية والاستعداد والتهميش والتخلف والتمييز.
هذه المواجهة نتيجة لهزات في مسارات “نيروز” التي تواجه تهما مبهمة غامضة بعد أن نجحت في تنظيم “أيام قرطاج البورنوغرافية ” هذا المهرجان غير المسبوق الذي تنتقد عبره المسرحية التسميات المستهلكة للمهرجانات والتظاهرات ومحاولات الإلهاء العبثية للشعب.
مع تشكيل ملامح المهرجان تتعالى الكوميديا على الركح وتتهافت التناقضات والمفارقات وتتلون بين المواقف والكلمات وتهب السينما والموسيقى والرقص لتشهد على ملاحم العصر الحديث.
تتواتر الفنون وعلى الركح وتتشابك عند خطوات فاطمة الفالحي وهي تهرع من الركح إلى الشاشة حيث تراوح بين الظهور الفعلي والافتراضي وهي تشرح الواقع والفن وتغوص في كواليس العصف الذهني الفني في صناعة المسرحية.
في الأثناء تتتاثر خطوات أحمد القريندي في لوحات كوريغرافية لتعانق قص فاطمة الفالحي وهي تحمل حق “نيروز” في الدفاع عن نفسها على عاتقها، وتتدفق الأحداث متخذة في كل مرة شكلا فنيا جديدا يلامس الجسد في كل أبعاده.
على إيقاع المراوحة بين الانفصال والاتصال تتكثف الجماليات الفنية على ركح التياترو وتصدح فاطمة الفالحي بصوتها المحمل بالحكايات وخامتها التي تستوعب أنماطا موسيقية مختلفة في عمل مسرحي منفتح على التأويلات.
زوايا الكبت والمسكوت عنه والسجن انفرجت وهي تتداعى للمراوغات والتلاعب بالكلمات والاقتراب من مساحات جريئة كستها المغالطات والنوايا المسمومة وتشكلت فكرة الثورة.
هذه الثورة على الوصايا والأعراف، على النظم والسلطات، على العادات والتقاليد، على الأطر والوصايا، على كل ما من شأنه أن ينتهك جسد الإنسان أو فكره ويصادر الآراء والأفكار لصالحه ويكتم الأصوات المعارضة، تبدت على الركح في كل ما للجسد من تعبيرات.
الجسد يتحرك على الركح ضمن عناصر سينوغرافية تراود المخيلة والمخيال حيث دميتان وسماعة ملابس وطاولة للزينة وتصفيف الشعر وديكورات أخرى خشبية كجل خطابات السلطة.
هذه العناصر السينوغرافية تحتمل أكثر من قراءة وتأويل على شاكلة النص الذي انبثقت عنه، نص غير مباشر ينهل من الواقع يرتوي منه ويلفظ سمه في وجوه المشاهدين يدغدغهم بمخالبه ويضحكهم فيما تتهاوى المقصلة على رأس “نيروز” لتطلق صرختها الأخيرة في وجه الظلم والفساد ويغرق الركح في ظلماته.
“نيروز” أُعدمت وأعدت معها دلالة اسمها؛ اليوم الأول من الربيع، وامتدت الدلالات إلى ما بعد الركح لتتقاطع مع المحاولات المستمرة لقبر الثورات وإسكات كل نفس حر ولنا في تونس أسوة.
وفيما تتزاحم الأسئلة في الذهن وتتدافع التساؤلات الوجودية عن تونس عن الثورة والربيع وعن الجنس والجنسانية وتزهر العتمة على الركح تطل زينب فرحات بابتسامتها التي تصرخ “لا بد لليل أن ينجلي”.