“ظلمات ثلاث” عنوان فيلم روائي قصير للمخرج حسام سلولي، يستوحيه من القرآن حيث تحيل التسمية إلى المراحل التي تسبق الولادة؛ ظلمة البطن، ظلمة الرحم، ظلمة المشيمة.
هذه المراحل التقطها حسام السلولي في فيلمه الذي عرض في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي وأيام قرطاج السينمائية ليصنع منها حكاية تمتد على خمس عشرة دقيقة تختبر فيها قدرتك النفسية على الصمود أمام سطوة القيود التي تنتهك حرية التنقل بين البلدان.
الظلمة الأولى تتجلى في رفض الواقع ومحاولة البحث عن بديل في الضفة الأخرى التي يعتقد الكل في كونها النعيم وقد شكل معالمها بإضاءة خافتة وملامح إطار مكاني شاحب توشحه السحب وحواجز تقفز حول أنظارك بأشكال مختلفة.
الظلمة الثانية هي الحصول على تأشيرة لفرنسا وكل ما يتخللها من انتهاكات وسلطوية وعلوية بعضها جلي وبعضها مبطن وقد طرّزها السلولي من خلال الواجهات التي يختبئ وراءها الآخر المتعالي ونظرات ممثليه التي تترجم هذا التعالي.
الظلمة الثالثة هي الهجرة غير النظامية التي باتت ملاذا أمام الرفض المتكرر للتأشيرات ولم تعد حكرا على فئة من المجتمع بل توسعت رقعتها لتشمل كل الفئات في ظل كل التعقيدات البيروقراطية.
دقائق معدودات تولّدت من سيناريو قصير لكنه عميق جدا لأنه يحفر في نفسيات كل اللذين حلموا بالمغادرة فجارت عليهم التأشيرة ومواعيدها التي باتت حلما صعب المنال وخاض “غسان” ملحمتهم.
اللقطات القريبة والإمعان في تفحص نظرات الشخصيات في الفيلم وحالة التوتر الدائم التي تتحول إلى غوص تحت الماء يغدو معه الصوت فقاعات حينما تبلغ ذروتها، حيثيات صنعت معنى آخر للحدود وحرية التنقل.
أحلام متبخرة ومشاريع متعثرة وطموحات لا متناهية تنهار على أبواب رفض التأشيرة الذي يخضع لخواريزميات المانح ولا تبرير له في غالب الأحيان وهو ما يشرحه الفيلم بطريقة ساخرة مغمّسة في الوجع وهو يتبع حكاية “غسان” الذي يقاوم من أجل افتكاك التأشيرة.
وجوه أخرى للتمييز والعنصرية والتبعية ظهرت في الفيلم الذي يستند إلى بناء سيكودرامي متين، وبدت معها الإجراءات المزعجة بما في ذلك الفحوص التي تنتهك الكرامة والخصوصية وتستبطن نظرة دونية لطالبي التأشيرة.
الغطرسة والعنجهية أيضا ظهرتا في الفيلم في شخصية ضابط الهجرة الذي لم يخجل حينما سخر من أحلام “غسان” بل وتخطي ذلك لمحاكمتها وتوصيفها بغير ذات الأهمية.
في مراوحة مربكة بين الظاهر والباطن، تقترب الكاميرا أكثر فأكثر من الأعين لتحملنا عبرها إلى داخل شخصية غسان حيث يتشكل حوار آخر ينتصر فيه طالب التأشيرة المقموع بالبيروقراطية والقوانين لنفسه.
ولأنه يؤمن بحقه في التنقل بحرية لا يرمي “غسان” المنديل بسهولة ولكنه يضطر في النهاية لأن يسلك طريقا آخر ليتجاوز الظلمة الثلاث، مسار يلفه الموت لكنه يصرخ في وجه السياسات العالمية التي تصادر حرية التنقل.
دوامة من الإجراءات والتعقيدات صورها سلولي دون فيض كلام ولكنه استنطق فيها الحالات النفسية والذهنية وهو يروي سيرورة تشكل تأشيرة “الموت”، التأشيرة التي ترمي الأفراد في صخب الأمواج اللهم يكسرون المحاولات المستمرة لانتهاك الحقوق.