هل تخيلت يوما أن توغل في الصحراء مقتفيا أثر طفل بصير؟ هل جربت أن تبصر العالم بقلب طفل غاب النور عن عينيه فأرشده إحساسه؟ هل جربت أن ترى القمر والنجوم وكل الألوان ببصيرته؟
هذه الأسئلة قد تبدو سوريالية وبلا أجوبة محتملة ولكن المخرج المغربي داود أولاد السيد خلق لها فضاء ممكنا ممتدا في الصحراء والعلياء مطرزا بشموخ النخيل الذي يطل من بين ثنايا المشاهد.
على إيقاع حكاية شاعرية، يدفعك الفيلم الى التأمل في حواسك واحساسك، في الطبيعة من حولك، في ذرة الرمل التي تشكل الكثبان في الصحراء، في النجوم التي تحرس القمر، في السحب التي تحضن الشمس.
بين السماء الزرقاء والأرض الذهبية سيل من الحكايات والمشاعر التي تترك أثرها في قلبك كما تترك خطى الطفل “يوسف” وجده “علال” أمائرها على وجه الرمل، وتتهاطل داخلك الأسئلة الوجودية.
“يوسف” طفل يتيم يرى العالم بقلبه يؤويه جداه في بيت مثقل بالسنين والتفاصيل وسط قرية تائهة وسط النخيل، في الواقع لن تهتم كثيرا لاسم القرية ولا عنوانها فجزئيات المكان كفيلة بإلهائك عن ذلك.
عمق المغرب وبساطة التراث يتجليان في كل ثنايا المنزل، وفي الأزياء وفي المأكل والمشرب مما يخلق حالة فنية متكاملة في فيلم “المرجا الزرقا” الذي يختبر فيه المخرج الجماليات زمانا ومكانا وشخوصا.
وفيما تتبدى ملامح العلاقة بين “يوسف” وجديه “علال” و”وردية” تتكثف الاستيطيقا وينهمر الحكي البسيط الذي يصطدم بجمالية الصور فيغدو شعرا تطرب له الآذان، وتفتك الكاميرا مكانها في القصة.
آلة التصوير شخصية مستقلة بذاتها تتخذ من حضن “يوسف” سكنا فيداعب أزرارها بأنامله أنى أوحت له اللحظة بشاعريتها فيلتقطها بكل ما أوتي من حدس ويحكم قبضته عليها دون أن يشفي فضولك لرؤيتها.
رابط أخاذ تشكل بين “يوسف” و”الكاميرا” وصنع فرادة الفيلم لمساءلته مدى الحاجة إلى عينين لرؤية الأشياء من حولنا ولكل الحواجز والأطر التي تكبّل الخيال وتحد من جموحه.
هذا الرابط تجاوز الشاشة في عرض الفيلم خلال أيام قرطاج السينمائية ليشد المشاهد إلى حيثيات الصور وتفاصيلها ويؤجج رغبته في تصفح هذه الصور ولكن المراوغة كانت نهج المخرج.
على نسق بناء درامي هادئ ورصين مطرز بالسكون، تتكلم فيه الصورة ويسكت غيه الصوت في مفارقة من مفارقات الفيلم، ولا يعلو الصوت إلا حينما يعصب الجد عينيه ويضع نفسه موضع حفيده لبضع ثوان.
من ظل البصر طريقه إليهم يتأجج سمعهم ويستعر تحسسهم للأشياء من حولهم، لأجل ذلك غيّب عنا المخرج داود أولاد السيد الصوت في فيلمه لأننا نرى الصور بأعيننا قبل أن نتماهى مع القص ونرى بقلوبنا.
والصور المنعتقة من الأبعاد الزمنية والمكانية تحررك من ماديتك وتسري بك إلى عوالم لا ولي فيها ولا سيد سوى القلب الذي يتهادى بين الصحراء والسماء ويغازل الخيال على تخوم “المرجا الزرقا” (البحيرة الزرقاء).
العبور والبحث عن الذات والجلد تيمات ظهرت في الفيلم بينما ارتسمت ملامح رحلة طريق في عمق الصحراء حينما تمسك الطفل “يوسف” برغبته في زيارة “المرجا الزرقا” ليلتقط جمالها بحدسه كما يفعل دائما.
رغبة الطفل اصطدمت في البدء برفض جديه وتبدى معها صراع الأجيال ولكنها انتصرت في النهاية حينما تماهت مع ذكريات الشيخ التي تطل من خلالها أطياف الشعور بالذنب.
هذه المشاعر الخفية التي ظلت مبهمة طيلة الفيلم كشفت عن وجهها خلال الرحلة في قلب الصحراء وبلغ معها الصراع بين الجد وحفيده ذروته قبل أن يتلاشى بين ذرات الرمل ويترك محله للخيال.
على وقع الأحداث يتخذ فقدان البصر معنى آخر ويصبح بوابة للتأمل في الحياة بمختلف تفاصيلها استنادا إلى تقنيات سينمائية تستنطق الصحراء والسكون وتعبيرات الممثلين محمد خيي وحسناء طمطاوي ويوسف قادير وعز العرب كغاط وعبد الحق صالح وعبد الله شيشة.
ووسط سيل الأفكار الفلسفية والوجودية الذي يجتاحك تحاول أن تلتقط العالم بعيني طفل بصير وتتغاضى عن كون المرجا الزرقاء حقيقة أم سراب وأنت تنغمس في عوالم غير مرئية، لكنها محسوسة.