الآن وقد أسدل الستار على الدورة 43 لمهرجلن الزيتونة الدولي بالقلعة الكبرى، أهم منارة ثقافية في الجهة، فقد بات لزاما على المهتمين بالشأن الثقافي من جهة والسلط المحلية والجهوية ذات الصلة القيام بوقفة تأمّل ومراجعة جذرية حتى نقف على أهم الهنات والنقاط السلبية التي جعلت من هذا الصرح الثقافي يتدحرج شيئا فشيئا ويفقد بريقه المعهود وكذلك من أجل طرح حلول استشرافية لا فقط لمستقبل المهرجان بل أيضا لعموم المشهد الثقافي في المنطقة.
الملاحظ للأجواء العامة ولبرنامج المهرجان العريق الذي يتجاوز عمره 50 سنة يدرك بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الدورة كانت استثنائية على كل المستويات. ذلك أن عدد سهرات المهرجان لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة رغم أن دورة 2021 كانت تقريبا في المستوى نفسه. هذا فضلا عن الوجه الباهت الذي ظهر به “اليوم السياحي” رغم المجهودات الجبارة التي بذلها منظمو هذه الدورة بقيادة مهدي شوشان مدير المهرجان ووفاء دعاسة رئيسة الجمعية. ولعلّ ما يحسب لهذه الهيئة التي اضطرّت الى “التضحية” بالعديد من فقرات المهرجان التقليدية والرئيسية كالنّدوة العلمية والكرنفال والأمسية الشعرية لـ”قلة ذات اليد” وغياب الدعم كليا لأسباب مختلفة، أنّها سعت قدر المستطاع إلى حفظ ماء الوجه و الخروج بأخف الأضرار. وربّما ساهم الحضور الجماهيري “المحترم نسبيا” في معظم السهرات تقريبا في تخفيف الضغط على هذه الهيئة رغم قلة عدد أفرادها (وهذا لا يعفيها من تحمّل مسؤولية النجاح أو الفشل) وبضل كذلك التنظيم المحكم الذي أمّنه شباب الجمعية التونسية للتطوع فرع القلعة الكبرى، النقطة المضيئة في هذه الدورة.
وكما كان متوقّعا فقد أثار هذا “الاختصار” حفيظة عدد من المهتمين بالشأن الثقافي خصوصا وبالشأن العام في المدينة عموما. إذ انبرى بعضهم يعبّرون خلف شاشات حواسيبهم وهواتفهم عن “سخطهم” من “تقزيم” هذا المهرجان العريق في حين خيّر البعض الآخر مراقبة الوضع من على الربوة و انتظار ما ستؤول إليه الأمور وفي البال أمنية ربما تتحقق فيطير بها الفؤاد. أما الأغلبية الصامتة والساحقة فقد خيّرت النأي بنفسها والاهتمام بما يشغلها من منطلق قناعتها أن هذا الصرح الثقافي فقد ألقه كغيره من المهرجانات العريقة لأسباب عديدة. هذا فضلا عن البعض الذي خيّر مقاطعة المهرجان بصفة صريحة في خطوة “احتجاجية” اما لعدم تلقّقيه دعوة للحضور أو لوروده بصفة “متأخرة” وهو ما اعتبروه “تهميشا” لهم.
وفي واقع الأمر فإن هذه الوضعية تترجم دون مواربة وبعيدا عن كل تزويق أو تنميق، تردي الوضع الثقافي في الجهة واستفحال الاحتقان الكبير بين فعاليات الساحة الثقافية والجمعياتية. ولئن كان هذا الوضع لا يقتصر على مدينة القلعة الكبرى بل هو ظاهرة عامة أصبح يعاني منها المشهد الثقافي في مختلف ربوع البلاد، فربّما قد حان الوقت لطرح هذه المسألة على طاولة النقاش من أجل إيجاد حلول عملية لرأب هذا الصدع الكبير داخل العائلة الثقافية القلعيّة.
فرغم أن القلعة الكبرى تعج بالجمعيات والفاعلين الثقافيين والمفكرين وغيرهم ولكن قلّما ما نجدهم مجتمعين في حدث واحد أو في مكان واحد أو حول مشروع واحد باستثناء تلك الصورة النمطية “المُنمّقة” التي تطالعنا بها أحيانا صفحات الهياكل الرسمية في اجتماعاتها مع ممثلين عن الجمعيات تراهم مجتمعين وقلوبهم شتى. وإلا ما معنى أن يغيب عن سهرتي افتتاح أو اختتام تظاهرة في حجم المهرجان الدولي للزيتونة أغلب الفاعلين الثقافيين في الجهة أو المسؤولين مهما كان موقعهم ومهما كانت المبررّات ؟ فمهرجان الزيتونة ليس ملكا ولا حكرا على هيئة المهرجان والاختلاف في هذا الباب لا يفسد للود قضية ولا يمنع أيا كان من الحضور كما لا يمنحه العذر عن التخلّف عن هذا الموعد الثقافي الأبرز في الجهة.
ولئن كان هذا التشخيص ليس من قبيل “الاكتشاف”، إذ أن هذا الوضع لطالما ميّز المشهد الثقافي عموما، غير أنه في نظرنا قد حان الوقت لتنقية الأجواء والبحث في سبل اقرار “الصلح” ولم الشمل واستشراف استراتيجية عمل واضحة ومشتركة لا إقصاء فيها ولا استنقاص لمجهود أي كان حتى تعم الفائدة على الجميع ولا يبقى كل طرف حبيس رؤاه وأفكاره و”جماعته”. نحن في أمس الحاجة اليوم الى مشروع ثقافي وفكري مشترك يلتفّ حوله الجميع حتى نتجاوز “مستنقع” المهاترات والمشاحنات و”العداوات الفكرية” التي تفتقد أحيانا الى أي منطق.
ولعلّ الخطوة الأكثر أهمية اليوم في ما يتعلق بالمهرجان الدولي للزيتونة هو انتخاب هيئة مديرة جديدة قادرة على تقديم مشروع جديد من أجل انطلاقة حقيقية لهذا المهرجان الذي أصبح يواجه خطر الاندثار. ويبقى الأهم من كل هذا هو الإحاطة بهذه الهيأة والالتفاف حولها من أجل دعمها ماديا ولوجستيا وهو ما يستدعي حتما انفتاحها بالضرورة على جميع مكونات المجتمع المدني في الجهة حتى يستعيد المهرجان مكانته وتعود للقلعة إشعاعها.