مريم حكيمي- شهدت دورة أيام قرطاج الموسيقية العاشرة لعام 2025، بمدينة الثقافة الشاذلي القلبيي حدثين موسيقيين استثنائيين خلال فعاليات اليوم الأول والثاني من المهرجان، وهما عرضا “موزاييك” لحمدي الجموسي و”رباعي انبعاث” لأحمد ليتيم. تمكّن الفنانان من تقديم تجربتين موسيقيتين متميزتين، حيث كانت كل واحدة منهما رحلة غنية بأنماط وإيقاعات ومقامات موسيقية تنتمي إلى الشرق والغرب، وكان التنوع والاختلاف من أبرز ركائز هذه العروض.
كما أظهرا من خلال عرضيهما، الذي شارك فيه عازفون من مختلف الجنسيات، كيف أن التنوع في استخدام الآلات الموسيقية والثراء الثقافي يشكلان أساسًا من أساسات جمال المقطوعات الموسيقية. فالجمالية لا تقتصر على آلة واحدة أو ثقافة معينة، بل تتسع لتشمل مجموعة من الآلات المختلفة من ثقافات متعددة، حيث يترك كل عازف بصمته الخاصة التي تعكس مرجعيته الثقافية، تقاليده، ورؤيته للعالم.
هذه الرؤية القائمة على التناغم والاختلاف الثقافي في الموسيقي، جسدها عرض فسيفساء “موزاييك” للعازف على الآلات الإيقاعية، حمدي الجموسي خلال فعاليات اليوم الأول لأيام قرطاج الموسيقية، اذ من خلال التمعن في اسم المشروع الموسيقي، “موزاييك”، يتجلى لنا أنه يحمل بين حروفه دلالات توحي بالتنوع والاختلاف. هذه الكلمة الفريدة، التي تشير إلى الفنون التي تعتمد على تجميع قطع صغيرة من مواد وألوان وأشكال متنوعة، لتشكيل لوحات فنية معقدة، تجتمع فيها التفاصيل المختلفة لخلق تناغم جمالي.
ومثلما تتزين لوحات الفسيفساء بمختلف الألوان، تزين ركح مسرح الجهات بمدينة الثقافة بعازفين من مختلف الجنسيات. نجد جورجي دوبريف (من بلغاريا) على آلة الكافال، ديوغو ألكسندر (من البرتغال) على آلة الباتري، دال فيراي (من فرنسا) على آلة التشيلو، بالاضافة إلى نوي كلار (من فرنسا) على آلة الأكورديون، وزي ألمايدا (من البرتغال) على آلة الكنترباص، وقد تمكنوا من جعل من العرض الموسيقي رحلة تنصهر خلالها كل الحدود.
صدحت مختلف الإيقاعات في عرض “موزاييك” منها الإفريقية، بالإضافة إلى الأنماط الموسيقية المختلفة مثل الإيثنو جاز، مما أضاف عمقًا خاصًا للعرض. كما أثارت التقنيات المستخدمة الاهتمام، حيث تمكن عازف الآلات الإيقاعية حمدي الجموسي في مقطع موسيقي من توظيف تقنية الكوناكول “Konnakol”، وهي مصطلح يستخدم في الموسيقى الهندية التقليدية للإشارة إلى تقنية استخدام الصوت البشري للتعبير عن الإيقاعات المعقدة. ويُعدُّ الكوناكول جزءًا من التقاليد الموسيقية الهندية، حيث يتم نطق تتابعات من المقاطع الصوتية المتناغمة والمرتبة بطريقة تشبه العزف على الآلات الإيقاعية.
(فيديو مقتطف من العرض : الكوناكول “Konnakol” )
طغى أيضًا النمط الموسيقي العالمي موسيقى العالم (Musique du Monde)، كما أضاف نمط موسيقى الإثنو (ethno musique ) طابعًا خاصًا. هذه الموسيقى تركز على دراسة وتقديم الموسيقى التقليدية للشعوب والثقافات المختلفة في العالم، حيث تتناول بشكل عام الموسيقى الشعبية والتقليدية التي تنتمي إلى ثقافات أو مجتمعات معينة، وتستند إلى التراث الثقافي والعرقي لتلك الشعوب. وقد جسد ذلك على الركح العازف على ألة الكافال (آلة موسيقية فولكلورية بلغارية تقليدية) جورجي دوبريف.
ولدت موسيقى “موزاييك” من رحم الحاضر من خلال الارتجال، تنوعت وامتزجت النغمات حتى ظننا أنها قد انصهرت، لكن سرعان ما عادت لتتفرد، لتكشف عن جمالها المتناغم الذي ينساب بين آذاننا. هذه التوليفة الموسيقية خلقت تجربة موسيقية تتناغم فيها الالات المختلفة وتتشابك، تمامًا مثل قطع الموزاييك التي تلتئم لتشكل لوحة فنية في غاية الروعة والدقة.
يستند عرض “موزاييك” إلى التلحين الجماعي والارتجال وكانت نقطة الانطلاق للمجموعة المؤسِّسة لهذا المشروع الموسيقي المتميز خلال إقامة فنية بمدينة الحمامات تونس، كما أن تنقلها بين المدن الفرنسية والثقافات المختلفة، ساعدها في بلورة رؤيتها الفنية.
من خلال نفس المنطلق الثقافي القائم على الاختلاف والتنوع، لكن برؤية موسيقية مغايرة تجمع بين آلالات موسيقية مختلفة، ظهر في فعاليات اليوم الثاني من أيام قرطاج الموسيقية، ولأول مرة على الركح، عرض “رباعي انبعاث” لأحمد ليتيم. وهي مجموعة موسيقية تونسية فرنسية تبلورت ملامحها الأولى خلال إقامة فنية في سردينيا. تتكون المجموعة من عازف الناي أحمد ليتيم، وعازف البيانو سيمون غروب، وعازف الدرامز بيار هورتي، وعازف الغيتار جيريمي ديبويشيه.
خلال العرض، تلاقى الشرق مع الغرب في تناغم ساحر، حيث تراقصت أنغام آلة الناي الرقيقة مع عزف الترومبّت الصاخب على خشبة المسرح. وكانت هنالك إضافة خاصة تتمثلت في حضور عازف الترومبّت أوسكار فيراي كضيف، والذي يُعد من أفضل عازفي الجيل الجديد على هذه الآلة في فرنسا. قام العازف أحمد ليتيم على آلة الناي، وأوسكار فيراي على الترومبّت، بحوارات موسيقية مميزة، جابت أصداؤها كل أرجاء المسرح، مما جعل الجمهور ينبهر بجمالها.
أبدع العازفون في خلق مزيج فني غير تقليدي، حيث كانت آلة الناي تنساب بألحانها الحالمة، مشبعة بالروح الشرقية العميقة، بينما كانت الترومبّت تضفي طابعًا حيويًا وقويًا على العرض، معبرة عن حرية الارتجال التي يتميز بها الجاز.
هذا التفاعل المستمر بين الآلتين أتاح للعازفين مساحة واسعة للتعبير والإبداع، لتجسد الموسيقى لحظة غنية بالتنوع، حيث تلاقت الثقافات في بوتقة واحدة. كان العرض بمثابتة رحلة صوتية تأخذنا بعيدًا عن الحدود التقليدية، لتعكس مفهومًا جديدًا للجاز في عالم معاصر متعدد الثقافات، ويعيد تعريف الإبداع الفني في أبهى صوره.
طغى مقام الحجاز على الموسيقى التي قدمها ليتيم، وقد تجلى ذلك بشكل خاص في مقطوعة قدمها لوالده، الذي حال وضعه الصحي دون حضوره العرض. كانت هذه المقطوعة بمثابة رسالة حب واحترام لوالده، وأضافت بعدًا عاطفيًا خاصًا للعرض.
ورغم أن المشروع تأسس منذ عام 2019، إلا أن جائحة كوفيد-19 في عام 2020 حالت دون لقاء المجموعة لفترة طويلة، خاصة أن العازفين يعيشون في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك، كانت أيام قرطاج الموسيقية في دورتها العاشرة فرصة لظهورهم لأول مرة على خشبة المسرح، ليعرضوا للعالم حلما اعاقته جائحة كوفيد واحتضنته أيام قرطاج الموسيقية.
اثبت عرضا “موزاييك” و”رباعي انبعاث” أن الموسيقى هي لغة عالمية تجمع بين الشعوب والثقافات رغم اختلافاتهم وإنها قوة قادرة على تجاوز الحواجز، و بناء جسور رغم كل العوائق.