بعد الموسيقى النابولية والراب والعيطة، تلون شارع الحبيب بورقيبة بمشهدية قريبة من وجدان التونسي في عرض “سطمبالي fusion” للفنان بلحسن ميهوب في آخر عروض الشارع ضمن أيام قرطاج الموسيقية.
فيما تحلقت الحشود بالركح انبعثت أولى النغمات من القمبري حينما داعبته أنامل بلحسن ميهوب وتعالت قرقعة “الشقاشق”، محاكية صليل الأصفاد والأغلال المعلقة على أجساد العبيد.
حالة من الدفء الوجداني والنشوة سرت في ثنايا الشارع المطرز بأنفاس الغاضبين ذات ثورة، تجاوزت الركح وامتدت إلى الحواجز التي صارت هلامية مع تدفق موسيقى السطمبالي.
هي صرخات الحرية المتسللة من بين حلقات السلاسل، صرخات حرى دافئة تواجه برود العنصريين والمضطهدين وتتخطى كل الحدود وتحرر الأجساد من سطوة كل القيود وتغرقها في هالة راقصة.
وفيما تحاكي نغمات القمبري تدندنة العبيد وغمغماتهم فتتمزق على وقعها سلاسل الاستعباد وتنكسر القيود محدثة صوتا تسايره ايقاعات “الشقاشق”، وتعاضدها أصوات العازفين لتروي حكايات الانعتاق والتحرر.
وعلى نسق كلمات “حمودة” و “والله السلام عليكم” و “بابا بحري” و “بوسعدية” وغيرها من الأغاني التي ترسخت في خانات الذاكرة انتفى الزمان والمكان وتعانقت الأكف مصفقة وتمايلت الأجساد يمينا و شمالا وكأنها ترنو إلى الخلاص من حاجز الواقع.
حركات الحضور مع حركات “محمد علي التواتي” الذي تأرجح وبين شخصيتي “بو سعدية” و “زامبالا” وصنع مشهدية ترشح غرائبية وإبهارا ولوح بجسده يمينا وشمالا ملقيا عن عاتقه كل ما من شأنه ان يعكّر صفوه، وكانت حركاته مرتّبة على وقع أنغام القمبري والشقاشق، خطواته واهتزازات جسده تأخذك إلى عالم ساحر.
وكلّما داعبت انامل بلحسن اوتار القمبري، يدخل في حوار ثنائي مع آلته الموسيقية ويتبعه عازفيْ الشقاشق والطبول، وتنصهر أحاسيس العازفين مع الأصوات التي تحاكي أنين العبيد ورنين الحديد المعلّق عى اجساده.
كل العيون تتعلق ببوسعدية الغامض وزيه العجيب وقناعه اللافت وهو يرقص على أغنية يدوي فيها إسمه قبل أن يظهر “زامبالا” ويراقص النار التي تدنو من جسده وتلتقي بجلده ويلثمها ولا تؤذيه ويتساءل الكل عن السر الكامن وراء ذلك.
وعلى وقع التساؤلات تتجلى معاناة “الزنوج” التي تصورها طقوس الالتزام بالنار وابتلاع قطع الزجاج وتتبدى نظرات عميقة ترتسم في عيون العازفين وهم يردّدون كلمات اغان تتضمّن كلمات باللهجة التونسية ولكنّك قد لا تفهم بعضها لأنّها موسومة بلهجة افريقية وبعض كلمات غير مفهومة تسمّى “العجمي”، وانت قطعا لن تهتم كثيرا بفهم الكلمات ولكنك في المقابل لا تتوقف عن هز رأسك والتمايل على وقعها.
حالة من الدفء الوجداني سرت بين الحضور، وتماهت الألحان مع الكلمات وحركات الأيادي والأرجل وأنفاس الحضور وحلّقت بهم إلى عالم ساحر حيث لا شيء غير التناسق الروحي، وكلّما صمتت إيقاعات العازفين عوّضتها ايقاعات الأكف محتفية بعرض سطمبالي fusion.
وإيقاعات السطمبالي تغريك وتسافر بك عبر الزمن، تنقل إليك صليل الأصفاد ورنين السلاسل وما بينهما من أوجاع الباكين على قارعة الإنسانية، تستحضر صرخات الحرية التي تتجاوز الأجساد المكبّلة وتنكسر على اعتابها كل القيود، تجعلك تفكّر في تلك الرغبة الإرادة التي صنعت من المعاناة تعبيرة احتجاجية على واقع مرير.