شيماء الصنهاجي-تميزت أيام قرطاج الموسيقية هذا العام بتنوع الأنماط الموسيقية و تعدد التجارب الإبداعية مقدما لجمهوره عروضا تمزج بين الحداثة و التجريب و من بين العروض اللافتة برز “Mirage” لحلمي المهذبي و “Fashion weak” للفنان الشاب التونسي مالك بن حليم “دون باكو”, حيث حمل كل منهما رؤية فنية مغايرة ترسّخ مفاهيم التجديد و كسر النمطية.
“Fashion weak”: رحلة موسيقية تُكسِر القواعد
قرر الفنان التونسي دون باك اتخاذ منحى جديد في مسيرته الفنية، حيث أطلق ألبومه Fashion weak.
تجربة جريئة تعكس رؤيته النقدية لعالم الموضة و الاستهلاك, لم يكن الألبوم مجرد مجموعة من المقطوعات، بل رسالة فنيّة تدعو إلى تقبل الإختلاف سواء كان فنيا أو ثقافيا أو عرقيا، إختار دون باك هذا الإسم بذكاء في إشارة مزدوجة إلى عالم الأزياء و إلى فكرة الضعف الظاهري الذي قد يتحول إلى قوّة تعبيرية ملهمة.
تجلّت هذه الفلسفة على خشبة المسرح حيث بدأ دون باك عرضة بمعزوفة منفردة “سولو” ساحرة قبل أن ينضم إليه ‘ازفين ليخلقوا معا مزيجا موسيقيا فريدا.
انصهرت الإيقاعات بين الإلكتروني و الصوفي و التونسي في رحلة موسيقية كسرت الحواجز و جعلت الجمهور ينغمس في أجواء من الحرية والانطلاق، فقد تناغمت المعزوفات المختلفة لتروي قصة موسيقية غير تقليدية، حيث كانت كل آلة تساهم في تشكيل هوية العرض و كأنها شخصية مستقلة داخل حكاية موسيقية متكاملة و مع تصاعد الإيقاع, تحوّل المكان إلى ساحة نابضة بالحياة و حيث وجد الجمهور نفسه مدفوعًا للرقص و التفاعل مع الطاقة التي بثها العرض.
“Mirage” : عندما يصبح العزف سرابًا
على الضفة الأخرى من التجربة الموسيقية جاء عرض “ميراج” لحلمي المهذبي يحمل طابعا أكثر غموضًا و تأمليًا، فقد استوحى المهذبي عرضه من مفهوم السراب حيث لعبت الموسيقى و الإضاءة دورا في خلق أجواء حالمة تنقل المستمع بين الواقع والخيال، إستخدمت في العرض آلات موسيقية وترية بالأساس و ارتكز على المزج بين الدربوكة و العود, مما منح الجمهور تجربة حسية غامرة.
تميّز العرض بتنوع الفئات العمرية للعازفين, إضافة إلى اختلاف خلفياتهم الثقافية، وهو ما أثّر بشكل واضح على مسار العزق و منحه طابعا فريدًا, فقد شهد العرض مشاركة عازف فلسطيني و إثنين من فرنسا, إضافة لحلمي المهذبي تونسي مقيم بايطاليا، هذا الإختلاف خلق تناغما فنيا يعكس لقاء الثقافات عبر الموسيقى، مزيج ثقافي متناغم جعل من العرض تجربة استثنائية حيث أضفى كل موسيقي بصمته الخاصة, مكونا لوحة سمعية تعبر الحدود و تعكس روح الإنفتاح و التلاقح الفني.
رغم التباين بين العرضين, فقد جمعهما سعي مشترك نحو التجديد وإعادة تعريف التجربة الموسيقية.
“ميراج” جاء صاخبًا و متمردًا, بينما حمل “فاشن ويك” أجواء حالمة و تأملية, و كلاهما نجح في تقديم تجربة موسيقية تتجاوز حدود المألوف، ليأكد أن الموسيقى لا تزال قادرة على التحول إلى مساحة حرّة للتعبير و التجريب.
أيام قرطاج الموسيقية كعادتها كانت أكثر من مجرد مهرجان بل مساحة للقاء الثقافات و كسر القيود و فتح أبواب جديدة أمام الإبداع التونسي و العالمي، مشاركات شبابية كهذه تثبت أن الموسيقى يمكن أن تكون لغة تتجاوز الحدود, حيث تتحول الألحان إلى جسور توصل الأحاسيس و المعاني دون الحاجة إلى الكلمات، كل نغمة، كل إيقاع و كل تفصيل صوتي كان بمثابة دعوة إلى الغوص في عوالم غير مكتشفة, و هذا تحديدا ما يجعل هذه العروض تجربة لا تنسى.