مريم حكيمي- حملت أيام قرطاج الموسيقية في دورتها العاشرة على مدى أسبوع، من 18 إلى 24 جانفي 2025 جمهورها في رحلة موسيقية إلى مختلف بقاع العالم، ونسجت خيوط تواصل مع عديد الثقافات. إلا أن هذا المزيج والانفتاح لم يثنها عن نسيان أولى المحطات وهي تونس، ولم يمنعها من التمسك والإمعان في جذورها وهويتها وتاريخها العريق. وقد جسّد هذه الانطلاقة من عمق الديار التونسية الفنان وعازف الكمان عطيل المعاوي، من خلال عرضه الفني “ظلال الأطلس”.
عطيل المعاوي أستاذ الموسيقى، وعازف آلة الكمان في فرقة أوبرا تونس. لطالما كان فنانًا متمسكًا بالهوية الموسيقية التونسية، إذ يؤكد في إحدى تصريحاته: “موسيقانا التونسية إن لم نعمل نحن عليها فلن يعمل عليها أحد“. هي فلسفة لربما تحمل بين طياتها رسائل تدعو المنادين بالانفتاح الثقافي ألا يصل انفتاحهم على مختلف الثقافات الأخرى وانبهارهم بها إلى حد الانصهار فيها، مما يؤدي إلى الاضمحلال وبالتالي فقدان الهوية وتصدعها.
كذلك يمكن اعتبارها دعوة على تعزيز سياسة “الاستثناء الثقافي” هو مفهوم يُعنى بحماية التنوع الثقافي والهوية الوطنية في مواجهة تأثيرات العولمة والهيمنة الثقافية. ويهدف إلى استثناء المنتجات الثقافية الموسيقى منها من قواعد التجارة الحرة، معتبرًا أنها ليست مجرد سلع تجارية بل جزء من الهوية الجماعية. وهو من أحد أهداف المهرجان الذين أتاحو الفرصة لظهور مختلف الفنانين الشبان التونسيين وتشجيعهم على الإنتاج الفني.
أن تنطلق من “أنت”، لتصل إلى الآخر، أن ترتكز على صفاتك الجوهرية الثابتة التي تميزك ثم تمد جسور التواصل مع الثقافات الأخرى، هي فلسفة “ظلال الأطلس”.
وعلى ركح مسرح الجهات بمدينة الثقافة، انطلقت الرحلة الموسيقية الفنية بظلال هذه الفلسفة، ما بين تونس والجزائر وصولًا إلى اليونان. جاب الجمهور مختلف بقاع شمال إفريقيا، مستحضرًا عطيل من خلالها عمق التراث التونسي وأصالته، عاكسًا تنوعه وثراءه بمختلف الإيقاعات التونسية المغاربية والألحان الأندلسية، وكذلك المالوف التونسي والجزائري.
رافق عطيل المعاوي سبعة عازفين بارزين هم: محمد بن صالحة، عبد العزيز الشريف، خليل جمعة، البشير النفاتي، محمد حاتم هميلة، محمد علي العش، وحاتم اللجدمي. عزفت المجموعة على آلات متنوعة مثل الناي، البندير، التار، الغيتار الكلاسيكي والفلامنكو، إضافة إلى آلة الباتري والباس، مما خلق تناغمًا موسيقيًا فريدًا.
وبرزت الكمنجة، تلك الآلة الوترية التي تجسد رمزًا للحنين والذكريات العميقة في قلب العرض، حيث قادت الجمهور في رحلة فنية تفيض بروح التراث والتاريخ. ورغم الهيمنة الطاغية للكمنجة على المشهد، كان لبقية الآلات الموسيقية دور أساسي في إثراء هذه الجولة عبر أطلس الموسيقى، مما أضفى تنوعًا وانسجامًا بين الأصوات المختلفة. اذ برزت آلة الغيتار التي نقلت الجمهور في رحلة أندلسية حالمة، مغمورة بنغمات الفلامنكو الدافئة والمرهفة.
كما دارت حوارات موسيقية بين آلة الناي والكمنجة، لتشكلا ثنائية ساحرة تمزج بين الحنين والصفاء. الناي، بصوته الرقيق والعميق، حمل معه رائحة الصحراء وصفاء الطبيعة، بينما كانت الكمنجة تُغني بروح التاريخ والجذور.
كما ساهمت الآلات الأخرى، مثل البندير والباس، في إضافة عمق وإيقاع مميز للعرض، مما جعل كل آلة تُعبّر عن جزء من الرحلة الموسيقية. البندير، بتفاصيله الإيقاعية الغنية، والتار، بطبعاته الرنانة، أضفيا على الموسيقى طابعًا مغاربيًا حيويًا، لتسافر الأنغام بين تقاليد شمال إفريقيا، حاملة معها عراقة الماضي وأصالة الحاضر.
الارتجال الموسيقي في “ظلال الأطلس” كان بمثابة رحلة حرة في فضاء الإبداع، حيث انسابت الأنغام من قلب الآلات كأمواج بحرية، تتقلب بين الهدوء والجنون. في هذه اللحظات، تجاوز الفنانون حدود المألوف، فامتزجت الأصوات بسلاسة مع الزمن، مُحطمة القيود التقليدية لتخلق مساحة غير محدودة من التعبير. هذا التنقل الحر بين الأنغام والإيقاعات كان يشكل لوحة فنية نابضة بالحياة، تُترجم مشاعر وتفاصيل فنية عميقة، لتمثل تفاعلًا حقيقيًا بين الفنان وجمهوره، لا كلمات فيه، فقط لغة الموسيقى التي تتحدث عن الذات والجماعة، عن الماضي والحاضر، وعن اتصال الروح بالموسيقى كوسيلة لا حدود لها.
ظل الطابع التونسي حاضرًا بقوة في كل لحظة من العرض، كأنما صوتا ينادي ولا ينقطع بعبق الموسيقى التونسية وبأن تونس هي الأصل لكل حكاية مؤكدا عمق ارتباط عطيل بهويته. “ظلال الأطلس” كان دعوة ملهمة للتأمل في الهوية الثقافية والتمسك بالجذور، مع فتح آفاق جديدة للتواصل مع العالم.