بملامحها الطفولية وحيويتها الوهّاجة أطلت الفنانة الرأس الأخضرية إليدا ألميدا على جمهور أيام قرطاج الموسيقية وحولت ركح قاعة الأوبرا إلى مساحتها الخاصة التي تشعر أنها تتقلص على وقع حضورها الصارخ.
وعلى إيقاع الموسيقى التي تنطلق من الرأس الأخضر وتعانق المدى يتأجج حضورها التي تغني بثقة تتجاوز الركح وتوصل بك في مسيرتها الإنسانية والفنية الملهمة التي لا تملك إلا أن تتأملها.
هذه الفنانة عايشت الحياة في مكان لا ضوء فيه ولا وسائل ترفيه سوى الراديو الذي يواصلون رواية حكاياته إذ انقطع في محاولات لتحدي الملل، وهذا التفصيل مهم لما له من وقع في أعمالها.
فإيلدا ألمايدا تكتب أغانيها بنفسها لنفسها وتستلهم من حياتها الكثير فتبدو كلماتها شاعرية وصادقة تجد طريقها إلى الآذان والقلوب حتى وإن لم تفهم بعضها فإنك تستشعرها في تعبيراتها وإيماءاتها.
وعلى الركح تستنطق هذه الفنانة كل شيء من حولها وتنثر الموسيقى الرأس الأخضرية في الأرجاء وتظهر في صوتها مسحة من الروحانية تحملك إلى السنوات التي تعلمت فيها التقنيات الصوتية في الكنيسة بعد موت والدها وانتقالها للعيش مع أمها في جزيرة مجاورة.
وفي البومها الخامس”دي لونجي” (من بعيد) الذي راقصت بأغانيه الجمهور التونسي تستمر إليدا ألميدا في معانقة جذورها وأصولها والاحتفاء بالرأس الأخضر حيث صرخت صرختها الأولى وصارت أما في سن السابعة عشر.
من تفاصيل أيامها ولياليها، من المواقف والأحداث التي عايشتها طفلة وشابة وزوجة وأما وأبناء وحفيدة استلهمت موسيقاها وكلماتها ونسجت مسارات فنية تشبه أربيل الجزر الذي تشبعت بجمالياته.
وموسيقاها تحمل المستمع إلى عوالم مختلفة في ذات اللحظة فتترنح على وقع الموسيقى الشعبية والبلوز وإيقاعات سانتياغو (البانوكي وقوتانا ومورنا) وتستسلم للرقص فيما تتغير الإيقاعات تباعا.
ولأنها تدين الأرخبيل الجزر بالحياة والإلهام لا تنفك البدا الميدا تروي حكاياته التي تحملها في كل تعابيرها وكلماتها التي تلقيها ما ببن الأغاني وتتغزل فيها بجمال الرأس الأخضر وشطآنه وشمسه وموسيقاه.
أحلام شباب الرأس الأخضر، رغباتهم في تخطي العزلة والانفتاح على العالم حكايات النساء الحنين إلى الوطن، مواضيع تحكيها اليدا في أغانيها ذات الخصوصيات الفنية.
هذه الأغاني على ما تحمله من معاني وما تثيره من مواضيع ذات أبعاد مختلفة تبعث على الرقص خاصة مع الأداء الركحي لإليدا ألميدا التي تغريك بالرقص وتسحبك شيئا فشيئا إل عوالمها وتسري إليك عدوى حركاتها.
النشوة التي تعتريها على الركح تتحول من حالة خاصة إلى حالة عامة تسود في ثنايا قاعة الأوبرا حيث يهز الجميع أكفهم توفيقا مستجيب لحركاتها أو يضربون الأرض بأقدامهم أو يهزون رؤوسهم.
وبعيدا عن الجانب الفني الذي شكلته بكل ما أوتيت من شغف وصدق وانتماء، تجيد الفنانة التي لا سبيل للملل في عروضها، التواصل مع الجمهور فهي تمازحه وتشاركه بعض الحكايات وتطلبه منه ترديد بعض الكلمات.
واللافت أن لا حدود بينها وبين جمهورها الذي لم ينقطع الوصال بينهما منذ بداية الحفل إلى نهايته حتى أنها استمرت في العناية بعد أن كانت قد أعلنت عن نهاية الحفلة لتكون تلك طريقتها في الاحتفاء به.
ومن بين اللحظات التي لا تغادر الذاكرة في هذا الحفل، تخلصها من حذائها ذو الكعب العالي والتحامها بالركح مباشرة، مغادرته الخشبة والرقص مع جمهور أيام قرطاج الموسيقية الذي كان مأخوذا بطاقتها.
ولأنها كانت معطاءة على الركح أعاد لها الجمهور كل بعضا من حماستها على امتداد ما يزيد عن الساعة والنصف وغنى لها وهي تغادر الركح بعد انتهاء العرض الذي كان مختلفا في كل تفاصيله.