مريم حكيمي-كانت أيام قرطاج الموسيقية في دورتها العاشرة لعام 2025، التي امتدت على مدار أسبوع، فرصة للغوص في بحور من الأنماط الموسيقية المتنوعة والتقنيات المستجدة، واكتشاف عوالم موسيقية جديدة، تركت في ذاكرتنا حكايات موسيقية لا تزال أصداؤها تنساب بين آذاننا إلى حد هذه اللحظة. وفي سياق هذه الرحلة، ظهر العرض الفني “في بالي” لوجيه البجاوي.
استوحى وجيه اسم عرضه الفني من مقطوعة ضمن العمل نفسه، والتي حملت الاسم ذاته “في بالي”، حيث كانت مصدر إلهامه الرئيس لهذا المشروع.
على مدار 40 دقيقة، في مسرح الجهات بمدينة الثقافة، قدم وجيه مجموعة من المقطوعات المميزة، منها “La petite fille de la mer”، “Home Within”، و”في بالي”، بمشاركة مجموعة من العازفين، عازف الناي أحمد ليتيم، عازف آلة الكنترباص وسيم بن رحومة، وعازف الباتري محمد الخشناوي. تنوعت الأنماط الموسيقية خلال العرض، مثل موسيقى العالم، الجاز، الإثنو، والجاز اللاتيني إضافة إلى الطابع التونسي، والشرقي.
وما لفت الانتباه في هذا العرض هو كسر الصورة الكلاسيكية التي اعتاد الجمهور مشاهدتها عن الفنان الذي يقدم عادة من خلال أداءه الصوتي كلمات مفهومة ذات معنى، لكن وجيه قدم شيئًا مختلفًا تمامًا، حيث ركز على تقطيع صوتي غير تقليدي لا يعتمد على الكلمات المفهومة. وفي حديثه مع “ريالتي أون لاين” حول هذه التقنية التي قد تبدو ضبابية للبعض، أكد وجيه البجاوي أنه من الطبيعي أن يُعتبر ما قدمه غير مفهوم بالنسبة للبعض من الجمهور، حيث أنهم قد اعتادوا على صورة نمطية “للمطرب” الذي يقدم كلمات ذات معنى بلغة معينة.
وقد فسر التقنية التي استخدمها بأنها مستلهمة من غناء الجاز، وتحديدًا من تقنية تلقب بـ “السكات” (Scat singing). تعتمد هذه التقنية بشكل أساسي على تقطيع صوتي لا يرتكز على كلمات مفهومة، بل على الإيقاع والنغمة وأوضح وجيه أنه تمكن من تطبيق هذه التقنية بعد دراسة وبحث موسيقي عميق، وأنها كانت نتيجة لإلهامه من عدد من الفنانين الكبار مثل الفنان الأمريكي “بوبي ماكفيرين”، “الغارو” و”جوني هندريكس”، وهم رواد في مجال الجاز.
( مقتطف من العرض : تقنية “السكات” )
كما أظهر وجيه البجاوي قدرة عالية واحترافية في فن الارتجال الصوتي، حيث تمكّن من التنقل بسلاسة بين عدة طبقات صوتية مختلفة، مما يعكس تأثره العميق بمدارس الجاز التي شكلت مصدر إلهام كبير له. وميز أداءه دمج تقنيات التنور (Ténor) والكنتروتنيور (contre-ténor) في صوته. ففي حين أن التنور يتميز بالنغمات العليا والصوت النقي الواضح، فإن الكنتروتنيور يعتمد على العمق والثراء الصوتي في الطبقات السفلى.
وقد تمكن الفنان من تقديم خلال عرضه تلاعبا بالطبقات، حيث انتقل بينهما بانسيابية، مما جعله قادرًا على التعبير بمرونة عن طيف واسع من المشاعر والأحاسيس. هذا التلاعب بين الطبقات الصوتية أتاح له هذا التعبير عن ذاته وعما يرواده من أفكار، حنين وتجارب بطريقة مبتكرة وغير تقليدية، متجاوزًا حدود الكلمات ليخلق تجربة موسيقية فريدة تلاكت انطباعا قويا لدى الجمهور.