بقلم الاستاذة خديجة زخامة شهلول**
يمثّل الساحل في الخمسينات من القرن العشرين من الناحية الإدارية مراقبة مدنيّة تضم قيادات كلّ من سوسة والمنستير والمهديّة والسواسي وهي الى حد بعيد ولايات سوسة والمنستير والمهديّة حاليا وهو يتأرجح بين المرتبة الثانية والثالثة من حيث عدد السكان (254300 سنة 1946 و433500 سنة 1956 أي زيادة ب 179000 خلال عشر سنوات)[1] وهو منطقة حضريّة بالأساس تتكوّن من شبكة مدن وقرى متقاربة ومتشابكة المصالح. اقتصادها قويّ رغم الأزمات. فالساحل يحتلّ المركز الأول في انتاج زيت الزيتون والنسيج ومركزا هاما في انتاج الحبوب والتجارة والحرف ومصالح السكّان به مترابطة. وبذلك يمثّل الساحل منطقة جذب قويّة لقوى السلطة الحاكمة وكذلك المعارضة.
يحتل الساحل المرتبة الثالثة من حيث عدد الأوروبيين القاطنين به (9850) بعد بنزرت (25730) وتونس العاصمة وأحوازها (162000) سنة 1846.أما على مستوى المقاومة الوطنيّة فقد تجاوز عدد الشعب المائة شعبة منها أكثر من ستين شعبة تابعة للديوان السياسي وأكثر من اربعين شعبة تابعة للجنة التنفيذيّة سنة 1937. مكّنت هذه الشعب من نشر الوعي السياسي لدى العامة ومن تعبئة المناضلين الذين كانوا دوما في الموعد عند المحطّات الكبرى من الكفاح من أجل لاستقلال.
وكانت محطّة جانفي 1952 الدامية من أصعبها وكانت أيضا المحطّة الحاسمة. بدأت الحوادث يوم 18 جانفي بُعيد اعتقال الحبيب بورقيبة وعددا من أعضاء الديوان السياسي في كلّ من سوسة والمنستير والقلعة الكبرى بتطبيق اضراب عام في كامل مدن وقرى قيادة سوسة وتنظيم مظاهرات سلميّة احتجاجا على اعتقال الزعماء
وخلال أيام 19 و20 و21 و22 جانفي توسّعت الإضرابات والمظاهرات لتشمل بقيّة المدن والقرى بمشاركة الرجال والنساء احتجاجا على اعتقال الزعماء وارسال عرائض في الغرض الى السلط المعنيّة التونسيّة والفرنسيّة ومن أكبر هذه المظاهرات تلك التي نظمّتها الشعب في كل من سوسة والقلعة الكبرى والمكنين وقصر هلال وجمّال وشاركت فيها بنّان وطوزه وصيادة ولمطة والمصدور ومنزل حرب والداموس وخنيس وبنبلة وبوحجر وغيرها.
وابتداء من يوم 21 جانفي شرع المناضلون في تنفيذ عمليات خطرة مثل التخريب le sabotage واستعمال العنف للردّ على تدخّل البوليس والجندرمة خلال المظاهرات. فقُطعت أعمدة وأسلاك الهاتف بين طبلبة والبقالطة وكذلك بين سوسة والمنستير وبين المكنين والمهديّة وانقطعت المكالمات الهاتفيّة على كامل هذا الخط. كما خُرّبت السكّة الحديديّة الرابطة بيت تونس وصفاقس في مستوى مساكن نتج عنها خروج القطار عن مساره وتم تفجير القنطرة التي يمرّ فوقها قطار المسافرين من سوسة الى تونس بين القلعة الصغرى وسيدي بوعلي.
تأزّم الوضع كثيرا يوم 22 جانفي في سوسة مركز المراقبة المدنيّة. نظم الدستوريون والنقابيون وتلامذة الزيتونة من سوسة والمدن والقرى المجاورة مثل مساكن ومسجد عيسى وحمام سوسة والوردانين وغيرها تجمّعا كبيرا بالمدينة الأوروبيّة وكانوا مسلحين بالحجارة والعصيّ والمتفجرات والمسدسات. هاجموا قوات الأمن وحطّموا زجاج المتاجر وبنك الجزائر وأطلقوا عيارات نارية وقاموا بعمليات نهب. أطلقت الشرطة الرصاص في الهواء ورمتهم بالقنابل المسيلة للدموع وفي الأثناء خرجت مظاهرة ضخمة من المدينة العتيقة متجهة نحو مولّد الكهرباء.
خرج إليهم العقيد DURAND قائد الحامية صحبة كتيبتين طالبا منهم العودة الى داخل المدينة مطلقا النار في الهواء على المتظاهرين الذين أحاطوا به ورموه بالحجارة وضربه أحدهم بهراوة على جمجمته بشدّة فسقط أرضا وطعنه أخر بخنجر في ظهره عندها هرع مساعدوه وأطلقوا النار فقتلوا أربعة متظاهرين من الوردانين وآخرين من سيدي عامر وزرمدين والساحلين والمنستير وقصيبة المديوني والمكنين وسيدي بنّور وجرحوا كثيرا. لفظ العقيد أنفاسه عند الوصول الى المستشفى. وضمت قائمة المتهمين بقتل العقيد دوران كلا من:
- سالم بن يونس بن صالح الجربى من مساكن
- صالح بن علي بن عبد الله سعد من سيدي بوزيد قاطن بسوسة
- الفرجاني بن الجيلاني بوقيلة من البقالطة قاطن بسوسة.
تبعا لهذه الحوادث تم إيقاف 39 مناضلا ونظرت المحكمة الدائمة للقوات المسلّحة في القضايا التي تعلّقت بهم. ينتمي بعض هؤلاء المناضلين الى البلدان التالية: القلعة الكبيرة (11) – حمام سوسة (12) –مسجد عيسى (3) –القلعة الصغيرة (4). ومن الغد 23 جانفي انفجر الوضع في المكنين وطبلبة. فمنذ الصباح سارت مظاهرة كبرى شارك فيها مناضلو المكنين وحشود من البلدان المجاورة وكان الوضع هادئا في البداية الى ان انتقل أعوان الشرطة الى ثكنة الحرس فهاجمهم عدة آلاف (3000) من المتظاهرين المسلحين (قنابل محلية -أسلحة نارية -زجاجات البنزين الحارقة…) بشراسة واسفرت المناوشات عن قتل 3 أعوان من قوات الأمن الفرنسيين منهم رئيس المركز وعونين تونسيين.
عندئذ وصلت قوة عسكريّة لنجدة قوات الأمن، بعد أن اعترضها مناضلو قصر هلال لتعطيل هذا المدد (اسفرت هذه العمليّة عن القبض على ثلاثة (3) اشخاص من قصر هلال يمسكون أسلحة بأيديهم)، هاجمها المتظاهرون ووقع اشتباك آخر أسفر عن جرح عون حرس وقتل الكثير من المتظاهرين. وعند الساعة الثانية بعد الزوال تقريبا غادرت القوة العسكرية مدينة المكنين نحو مدينة المهديّة عبر طبلبة.
وفي طبلبة كانت المعركة ساحقة مات فيها خلق كثير من الجانبين وصفها المناضل عبد السلام شبيل من طبلبة كما يلي:” في 21 جانفي في الصباح الباكر قبل طلوع الشمس ذهبت الى سوق البلدة حيث توجد نخبة من الشبان نائمين في مبنى معيّن… عند وصولي إليهم صاحوا جميعا “إن ساعة العمل قد دقّت؟” فامرتهم أولا بقص خطوط التلفون في طريقي سوسة والمهدية وبتحضير العدّة اللازمة لخوض المعركة من ديناميت البحر بقدر المجهود على شكل عصبان وقوارير الليسانس والكربون وحث الأحرار على مد السلاح من مسدّسات وإخراج السلاح العربي مع النظام في الكفاح… وفي حدود الساعة العاشرة صباحا انتظمت مظاهرة كبرى يزيد العدد فيها على ستة آلف بين رجال ونساء خرجوا من النادي وطافوا بالبلدة حتى وصلوا الى مقرّ السلطة المحليّة وبلّغوا احتجاجات عن طريق الشيخ ووجّهت احتجاجات عن طريق البوسطة الى المسؤولين في الحكومة الفرنسيّة ورئيس هيئة الأمم المتحدة وتفرّقت المظاهرة في هدوء… وفي 22 جانفي اتصلت…بالأخ محمّد واستلمت منه بندقيّة حربيّة من نوع إيطالي مع كميّة من الكرطوش (36 رصاصة) وسلمناها الى الأخ الناشط عبد السلام… وفي ذلك اليوم جدّت مظاهرة أكبر من السابقة ورئيسها الأخ البشير شبيل وسلّم احتجاجات إلى السلط المسؤولة لإبلاغها الى العامل والمراقب المدني.
ليلة 22 جانفي دخلنا أجنحة الظلام والمراكز مصانة من كلّ جانب بقّوة الشباب وافادتنا إذاعة القاهرة في تلك الليلة بوقوع حوادث كبيرة في سوسة ومات فيها كولونيل وبعض من الجنود الفرنسيين وبعض من المتظاهرين من إخواننا في الكفاح وحوادث أخرى في مدينة نابل فاستبشرنا وتوقعنا أن تأتي القوّة على البلدات القريبة منّا.
وفي ليلة 23 جانفي أرسلني الأخ البشير شبيل الى بلدة طوزه لأتصل بالأخ عليّ دلدول في مهمّة حربيّة تتمثّل في أخذ كميّة من الكرطوش المدخرة عنده منذ سنة 1945. وقبل الذهاب تفقّدت جميع الإخوان ثم سرت في الطريق على درّاجة…وصلت الى طوزه وتقابلت مع صاحب المهمّة وأحاطني علما بأن الخزينة مردومة في مفترق الطرق خارج البلدة ولا يمكن الحفر عنها في هذا الوقت… وذهبنا الى قاراج قرب داره وفتّش تحت الأدباش الفلاحية فوجد صندوقا صغيرا به 15 كرطوشة فسلّمها لي وطمأنني على البقية…
واسترحت ساعة تقريبا وودعته وعدت راجعا الى بلدتنا حتى دخلت بلدة المكنين على الساعة العاشرة صباحا عند وقوع المظاهرة الكبرى ضد الاستعمار …وإطلاق رصاص الرشاشات من فوق بناية الجندرمة فوق البلدة ينذر بقرب إتيان القوّة. ورجعت الى الوراء بجهة المحكمة فوجدت السيد القايد واقفا بصحبة سائق سيارته يرتعش ارتعاشا عند إتيان أحد الجرحى من إخواننا…فتركه يتخبّط في دمه وأخذ السيارة وذهب الى طريق طبلبة خوفا على نفسه… وسرت الى بلدتي لأتصل بإخواني وأعلمهم… بقرب الجيش على أبواب المكنين…
وعند اقترابي من بلدتي وجدت بعض الرفاق ذاهبين لخوض المعركة في المكنين فمنعتهم من الذهاب قائلا ” كلّ بلد تقوم بقسطها من الكفاح وها هي القوّة قريب قدومها. فما عليكم إلاّ أن تبرهنوا عن عزمكم على الجهاد”… ثم تقابلت مع الأخ سي فرج جمعة وأعلمته بالمظاهرة التي بالمكنين… وتقرّر عقد اجتماع الهيئة في ذلك الحين، وكانت الساعة الحادية عشر والنصف اتفق فيها على القيام بمظاهرة كبرى لتحريض الأهالي على المقاومة. وسارت المظاهرة برجال ونساء عددهم حوالي سبعة آلاف نسمة بالتهليل والتكبير انطلاقا من النادي وطافت البلدة حتى وصلت امام مقر السلطة بقيادة الهيئة. وافتتح الخطب الأخ فرج جمعة بخطاب قيم محرّضا على ضرب العدوّ في القلب والتمسّك بالوحدة والنظام والعمل حتى النصر لأن القضيّة حياة أو موت…
كانت الساعة الثانية والربع بعد الزوال حين اتانا الأب المرحوم عثمان الصندل فزودنا بنصائحه الثمينة في المقاومة. وبينما نحن في ترقّب كبير إذ بالإخوان الملتقطين للأخبار السريّة من أجهزة الراديو صاحوا عن بعد ” القوّة خرجت من المكنين وها هي قادمة للبلدة… والصياح يعلو من كل حدب ” الجهاد الجهاد فالنصر حليفنا”.
وحلّت القوّة بضيعة المعمّر الفرنسي بياس… وتقدّمت السيارات كالمعتاد قرب البسّاج ونزل الجند ليطوفوا بالبلدة من كلّ ناحية. وابتدأت المعركة العنيفة من هناك على الساعة الثالثة إلاّ الربع قرب السبّالة في مركز الشابين أحمد التركي وشبيل نويرة اللذين أظهرا براعة كبيرة في الدفاع واستشهدا في مكانهما…
(وفي المركز الثاني) تقدّت سيارة تابعة لأجهزة اللاسلكي للاستطلاع (فتمّ إطلاق الرصاص عليها) فأصيبت أجهزة الراديو بضربة أولى ثم سائق السيارة الذي خرّ صريعا… يتخبّط في دمائه. وحمي وطيس الحرب… دون انقطاع حتى كاد يغلب الوطنيون في تلك المراكز الرئيسيّة… وعلى الطريق المؤدّية إلى بودريس استشهد الأب عثمان الصندل…
ثم وصلت تلك القوة الى المركز الثالث… فوق البناية التابعة لمحمد… ووقع إلقاء القنابل من هناك وكبّدوا العدوّ خسائر في الأنفس والعتاد حتّى هدأ صوت القنابل… وعند وصول الجيش الى الساحة ما بين البنايات حميت المعركة من جميع النواحي (وكان) كذلك عدد كبير من النساء… فوق السطوح يولولن بالزغاريد بكلّ شجاعة… وكان الهجوم تلو الهجوم حتى وصلت القوّة أمام القراجات … وهناك نزلت القنابل مثل المطر بنظام وحنكة ودراية من قبل الشبان…وكاد النهار يصبح ليلا بنيران القنابل … حتى هدأ الصوت … وزغاريد النساء تعلو من كل ناحية.
ثم تقدّمت القوّة في المضيق بين البناءات حتى أوقفتها قوة الشباب التي بالمراكز هناك…وعطلوها مدة زمنيّة عن المسير بقوة القنابل…وكانت كلّ خطوة بهجوم حتى وصلت مصفّحة كبرى بها خمس وعشرون جنديّا في بطحاء السفرة. وهناك اشتدّ وطيس المعركة بالقنابل من فوق السطوح وبإطلاق الرصاص وأظهر المقاومون براعة كبيرة…وكان الفتي حسين المدّب الذي قضى على تلك المصفّحة التي بها خمسة وعشرون جنديا بقنبلة في وسطها.
واستمرّ الهجوم قرب سيدي عبد الله بإطلاق الرصاص والقنابل ولما وصل بعض الجيش الباقي أمام النادي أظهر الشبان براعة كبيرة… ولما قرب الجيش قرب جامع بنّور تكلّمت القنابل اليدويّة… وكان ذلك الخط على نار من كلّ ناحية…حتى خرجت القوّة المهزومة على طريق المهديّة… آخذة طريق السكة الحديديّة حيث استشهد الأب عمر بيّوض ولما قربت قرب البسّاج خرجت المرأة الشهيدة محبوبة بنت الصندل بالسّوسيّة مطلقة الزغاريد أمام الدار فرآها الجنديّ قرب البسّاج فجندلها صريعة… ليواصلوا نحو الانقار حاملين موتاهم في الأكياس مقطّعين إربا إربا على الكميونات الباقية. ولم يبق لديهم سوى جنديّا سالما و12 جريحا مع 68 موتى”. (من كتاب: طبلبة التقليديّة والحداثة في المجتمع العربي. الجزء الخامس. تأليف رمضان بن ريّانة وعادل بالكحلة).
استشهد في هذا اليوم من مناضلي طبلبة: محبوبة سوسيّة – آمنة براهم – عامر بن عبد السلام بيوض – عثمان (الصندل) بن أحمد بالسوسيّة – عمر بيّوض – محمّد بن عبد القادر المستيري – أحمد التركي – شبيل بن محمّد نويرة.
وكانت ردّة فعل المستعمر في منتهى الوحشيّة إذ ابتداء من 24 جانفي فُرضت حالة الطوارئ وضُرب الحصار على المنطقة مع تواصل سلسلة الاعتقالات والبحث عن الأسلحة كامل شهر جانفي من قبل ألاف من الجند اللفيف والسنيغاليين بسياراتهم العسكرية ودباباتهم ومدافعهم. دخل الجيش قصر هلال من ثلاث طرقات وأجرى عملية تمشيط واسعة: إيقافات وحجز أسلحة.
وفي المكنين بلغ عدد الموقوفين يوم 24 جانفي والأيام التي بعدها حوالي 97 مناضلا وتمت محاكمتهم جميعا وتراوحت الأحكام فيها بين 20 سنة سجن وعدم سماع الدعوى والإعدام لسبعة منهم (تم التنفيذ على 3 منهم يوم 27 مارس 1954). الشهداء الذين تم تنفيذ حكم الإعدام فيهم هم: محمد كركوب، محمد حميدة وعبد الحميد الغضاب.
وفي طبلبة واثناء مراسم دفن الشهداء حاصر الجيش المكان مصوبا نحو الحاضرين الرشاشات وفي المدينة قام الجيش بحملة تفتيش عنيفة في محلات السكنى والمحلات التجارية والحرفية دامت ثلاثة أيام وتم إيقاف مائة رجل (100) بين شبان ومسنّين.
وفي 5 فيفري شنّ الجيش وقوات الأمن حملة التطهير الكبرى. ضرب الجيش (ما يزيد عن العشرة آلاف جندي) حصارا على المنطقة من حدود صيادة الى حدود البقالطة وفوجئ سكان كلّ قيادة المنستير صباح يوم الثلاثاء 5 فيفري بهجوم عسكري على بلدانهم وانتشار الجنود المسلّحين في الشوارع مقتحمين المنازل وكل الأماكن التي يمكن أن يختبئ بها المناضلون ويوارون بها الأسلحة يفتشونها مستعملين الشدّة والعنف.
حُوصرت قصر هلال واهلها منذ السابعة صباحا وحُجّر على السكان الخروج من منازلهم مع التهديد بنسفها وساند الطيران عملية الترويع بمرور منخفض مع تجميع السكان بينما التفتيش متواصل بالمنازل والحقول وتوالت الاعتقالات ليلا ونهارا وتم إيقاف 34 مناضلا. وحوصرت طبلبة برا وبحرا ودخل الجيش بدبابات ومدافع واحتل جميع البنايات التي على الطريق العام ثم جمع كل رجال البلدة في ساحة المدرسة لمدة ثلاثة ايام يعذبونهم وبقي الأطفال والنساء في المنازل التي دخلها الجنود يفتّشونها ويعيثون فيها فسادا وترويعا واعتقلت نساء الرجال الفارين في قشلة المهدية ثم تم إطلاق سراحهن قبل ان يحصل المحظور.
طالت حملة الاعتقال أكثر من 70 شخصا موزعين على محتشد زعرور وثكنة الجيش بسوسة والمهدية والسجن العسكري بتونس. وحوصرت بنّان وكل القرى والمدن بعمل المنستير وانتشرت عناصر الجيش في الأنهج والساحات واقتحمت المنازل وفتشتها بحثا عن الأسلحة والذخائر واعتقلت عددا كبيرا من المناضلين.
في البداية تم إيداع المعتقلين بسجون القيادات ثم نقلوا جميعهم الى الثكنة العسكريّة في سوسة حيث كانت إقامتهم في ظروف سيئة للغاية وتم استخدامهم في إصلاح الطرقات. وفي تلك الفترة أي بداية شهر فيفري أنشأت السلطة الاستعماريّة محتشدا (مركز إقامة محروسة) جديدا في نواحي فرّي فيل (منزل بورقيبة حاليا) يطلق عليه الزعرور. ونقلت إليه ابداء من الأسبوع الثاني لشهر فيفري بعض المعتقلين من الساحل والبقيّة وكلّ من تمّ إيقافه بعد ذلك اليوم نم إيداعهم بمحتشد تبرسق.
وعن حملة القمع هذه كتبت جريدة الزهرة آنذاك ” واخترقنا بلدان الساحلين وبنّان وبوحجر وقصر هلال والمكنين. وكانت القرى التي اخترقناها يسودها جوّ من الفزع والهلع الذي تصورناه في وجوه الأهالي وملامحهم وفي الحوانيت المغلقة الأبواب والمقاهي المتعطّلة عن العمل. كلّ شيء جاهم وكلّ شيء حزين. وفي هذا الجو الجاهم الحزين تكمن قوّة معنويّة شديدة الأسس قويّة الأركان، قوّة تستمدّ معناها السامي من سموّ الحقّ وعليائه ومن الإيمان أن القوّة جولة ثمّ تضمحلّ وأن القوّة العليا التي تسود وتدوم هي قوّة الحقّ”
وابتداء من 9 فيفري احتل الجيش كلاّ من قصر هلال والمكنين وطبلبة بتنصيب فرقة بكل قرية مع تسخير البناءات العمومية واستمرّ هذا التواجد العسكري لقرابة الستة أشهر.
[1] عدد السكان التونسيون
1946: 254308 نسمة في المرتبة الثالثة بعد صفاقس (276269 نسمة) وتونس والأحواز (503766 نسمة)
1956 : 433555 نسمة المرتبة الثانية بعد تونس والأحواز(546681) وقبل صفاقس (325866)
* مداخلة تم القاؤها يوم الأحد 26 جانفي ضمن "ملتقى إحياء الذاكرة" الذي نظمته جمعية علوم وتراث بالقلعة الكبرى بالتعاون مع جمعية الاتحاد الثقافي بسوسة. ** باحثة وكاتبة