بقلم رانيا الحمـّامي*
تأخذنا رواية “أكودة 1943” في رحلة زمنية ومكانية، تخلط فيها جمال الخيال ووقائع حقيقية، لتعيد إحياء حقبة الحرب العالمية الثانية داخل القرية الساحلية “أكودة”. هناك، تنبض الشخصيات بالحياة، وتنقل رسائلها إلينا وإلى العالم، علّنا نستوعب ماضينا وهويتنا.
ففي خضمّ الضوضاء المعاصرة التي تكاد تفقدنا صلتنا بعبق الماضي وأحلام الأجداد، وتنسينا أصولنا والمسارات التي قادتنا إلى حاضرنا، تأتي الكاتبة هويدا عبر سرد عميق وحوارات حيّة لتعيدنا إلى ذاكرةٍ كادت تتلاشى، فتنعش أرواحنا وتُمتعنا.
تؤكد الرواية أن الهوة بين المحتل وصاحب الأرض عميقة وأن الفرق بين ثقافة المستعمر وواقع المواطنين شاسع، فنجد ضمن الرسائل التي تحتويها أكودة 1943، خطابا لأحد الجنود موجها الى والدته، يقول فيه: ” أمّاه، أعلم أنكِ لن تصدّقي ذلك، فالسكان الأصليون هنا متعددو الزوجات. بل وتعيش زوجاتهم في نفس المنزل. يا إلهي، لا شك أن الرجل هنا يعيش بين خصامهن وتدافعهن وجنون غيرتهن. ليكن الرب في عونه. إني لا أستطيع حتى تخيل هذا الحال في ضاحيتنا: أربع نساء لرجل واحد وفي بيت واحد؟ يا إلهي. أنا أخاف من واحدة فقط وأسعى بكل الطرق إلى تأخير الزواج منها.” وهو ما يظهر أنّ الحرب ليست مجرّد صراعٍ على الأرض، بل هي احتكاكٌ بين عوالم متعددة وثقافاتٍ شتّى. فتنفتح الرواية على تساؤلاتٍ حول تعايش المستعمر في مجتمعٍ مختلف عنه وعلى مرجعياته، وترصد مشاعر الجنود المغتربين عن أرضٍ لا يعرفون زيتونها ولا قمحها.
كما تُبرز الرواية دور العقيدة التي كانت مصدر قوة وحب، وجسرًا للتواصل والانفتاح على الأديان الأخرى، تلبس المتحاربين رداء من المحبة والاحترام. فحبّ الله كان الرابط الذي وحّد المختلفين في عقائدهم، وأظهر جمال الشعائر الاسلامية في عيون غير المسلمين.
في الوقت ذاته، تكشف الرواية عن مشاعر الجنود المحتلّين، الذين يعترفون في لحظات ضعفهم بأنهم محرومون من وطنٍ حقيقي، مدركين أنّهم ليسوا إلا أدواتٍ في آلة الاحتلال. يصرّح أحدهم بمرارةٍ قائلاً: “هذه الحرب اللعينة أخرجت العالم في حقيقته العارية المرعبة. نحن مجرد كائنات تقودها غرائز مبهمة للقتل والفتك. ننسى الآيات والسور والأسفار والتراتيل… ونجتهد في وضع تأويلات لها وتفاسير لنمنح كذبنا وأنانيتنا مشروعية إلهية، ولتكون حياتنا قائمة على الحديد والنار والدماء والدولارات عوض أن نبنيها على الابتسامة والحب وصون الإنسان والأرض .”
بهذا الطرح، تلفت الكاتبة هويدا النظر إلى حجم الدمار المعنوي والنفسي في الحروب والمعاناة التي يعيشها الضحية والجلاد، وتبرز أن الحرب تُغيّر رؤية الإنسان للكون ، فتحوّل البشر من مصدر رحمة وتسامح إلى وقودٍ للعنف والدمار، رؤية تشوه العقيدة وتستغلها.
تتردّد هذه الفكرة أيضا عندما تقارن الرواية بين الطبيعة النقيّة والإنسان، إذ نقرأ: “العصافير تغني شكرا للإله في حين نعلن نحن البشر الحروب باسمه ونقتل بعضنا البعض ونهدر الدماء ونغتصب النساء ونكذب ونسرق. بل وننفي وجوده أحيانًا؟” “هذا زيتون أجدادي”، هكذا يصرخ محمد — أحد شخصيات الرواية — وهو يشاهد جنود الاحتلال يحرقون أرضه، في مشهدٍ مؤلم يُلخّص قسوة الحرب وتشبُّث الإنسان بأرضه وجذوره. ورغم هذا السواد الذي يخيّم على الواقع خلال الحرب، يتشبّث التونسيون بإنسانيتهم، فيتعاملون مع العدو بروحٍ متسامحةٍ تؤكد أن القوّة الحقيقية لا تكمن في السلاح وحده، بل في الهوية والتاريخ والقيم المتجذّرة. وتُركز الكاتبة على الهوية التونسية ببُعدها البربري والفينيقي والعربي، وتتطرق الى حقائق تاريخية، من بينها إلغاء الرقّ، مُعبّرةً من خلال الشخصيات والأحداث عن وعيٍ عميق بالماضي التونسي وإرثه الإنساني. كما تشير الرواية الى دور المرأة التونسية في النضال؛ إذ تظهر المرأة ككادحةٍ واعية، مثقفةٍ ومسؤولة، في حين يعتزّ الرجل بدور “أسد العرين”. فقد شاركت المرأة التونسية في الحرب، وأتقنت اللغات، وانخرطت في معارك التحرر، تمامًا كما تجسّد شخصية “زهرة” في الرواية.
ولم تغفل الرواية على ذكر خلاف تاريخي طواه الزمن بين قريتي أكودة والقلعة الكبرى المجاورة، حيث اختلفتا في طريقة مقاومة الاحتلال رغم وحدة الهدف. فبينما اشترى أهالي القلعة السلاح دفاعًا عن أرضهم، رأى أهالي أكودة أن الدفاع عن الحاكم الشرعي هو دفاع عن الوطن. اختلاف الصور لم يلغِ وحدة المعنى؛ فالجاران كانا يطمحان إلى الحرية وإن تعددت السبل.
وتختم الرواية بالتذكير بأن تاريخ تونس شهد اجتماع الأتراك والفرنسيين والأمريكيين والإنجليز والألمان على افتكاك الأرض واستعمار شعبها. ولكن تميّز التونسيين بخصالٍ تعكس جوهر تونس – بلدٌ يفيض حبًا وإيمانًا وإنسانيةً وذكاءً ووطنيةً – جعلهم يمتلكون قلوب الجميع ويذكرون بأن الجامع بين أعداء الحرب هي الانسانية.
* مهندسة وروائية