بقلم رانيا الحـمّـامي
الإهداء
إلى الباحثين على النور وسط الظلام،
إلى زارعي الحب أينما مرّوا،
إلى رعاة السلام في كل مكان،
إلى باعثي الحياة في فاقدي الأمل،
إلى أصحاب العزائم والإرادة،
إلى محاربي الوهن والضعف،
إلى كل من يرفض أن تهدمه الهزائم،
إلى من قرّر الحياة.
ليس بَعيدا عن القَبو، يَشُق سُكون الليل شهيقُ ميسا وتَتهاطَل دموعُها كأمطار الشِّتاء تغسل ثوبها وثوب سالي التي تُعانِقُها وتَمْسَح على شَعْرِها. جالستيْن فوق كِيس الأعْشابِ الذي أعدَّتْه ميسا للاخْتِفاء عِند قِيَامها بالمُهِمّة المُوَكَّلَةِ إلَيْها.
سالي: لا تَبْكي يا عَزيزَتي. لقد خيَّرتِ أن لا تَرتَكِبي الجُرْمَ القاتِل وأن تُخبريني بِكل شيء وهذا كافٍ لتَكوني فَخورةً بنَفسك. لم تَخوني اليَد التي مُدَّتْ لكِ ولم تَغْدُري العَائلة التي أوَتْك مُنذ شُهورٍ واعْتَبَرَتْكِ أحد أَفْرادها. ميسا، لقد كُنتِ المُقرَّبة إلى قَلْبي من بيْن كل النِّساء والفَتيات اللاتي يَأْتين إلى المَقام. ولم تَخوني تَعليمات الرجل الصَّالح بيبو. فلا تبكي.
لم تَكُف مِيسا عن الشَّهيق والبُكاء. أَخذَتْها سالي إلى داخل المَقام تاركةً كيسَ الحُبوب وجَرَّة الماء أرضًا.
سالي: فلْنَدْخُل. وتأكدي أن لا شيء يَهم سُكَّان تاجوت في القبو.
ميسا : كُنتُ أَتواجدُ من خِلالِه. كان مِرْٱتي التي أتَجمَّل أمَامَها وكُنت أرى صُورَتي في بَريق عيْنيْه.
و كانت سَعادَتُه إنْعِكاسًا لسَعادَتي وكان حُزْنه يَنْعَكِس على أحْزاني الدَّفينة والتي أجْهلُ مَصْدَرَها فيُدَغْدِغُها، فأحْزَن لحُزْنِه. كُنَّا نَغْمتيْن مُنْسَابتَيْن في الأرْجَاء. كُنْتُ أظُن أن زُهُور الرَّبيع تَنْفَتِحُ فقَط من أجْلِنا لتَسْتَمِع لضَحَكاتنا ونَحن نَسْبح في جَمال الطَبيعة وَسط الغابة. كان لي الحَياة. وفَجْأَةً أَصْبَحَتْ حَياتي معه خِيَارًا يُنَافِسُ خِيَارَ ترْكِ الحَيَاة والرَّحيل بِلَا رَجْعَة لعَالَم الأمْوات.
سالي : ليس الحُب ما تَشْتَهِيه أنْفُسُنا في الطَّرَف الآخر بل هو البَحث عن ذَواتنا. هُو احْتِيَاج عميق لذَواتِنا نُسْقِطه في البحث حَولنا عن شَخص يَعكسنا. أما الآن فيَكْفِيك فَخْرًا إنك لم تَخوني العَهد. أخلِدي للنوم الآن وإنسي كل ما حدث. سيكون كل ما أخْبَرْتني به سرًّا بيْني وبيْنك ولن يعْلَمه إلا بيبو.
تبكي ميسا بحُرْقَة ويَعتَريها شُعور بالبرد فترجف بشدة. تُدخلها سالي إلى الغرفة وتَضعها على الفراش وتُغطيها بكل ما في الغرفة من أغطية. ثم تتجه نحو غُرفة بيبو.
*****
أشْرقتْ شَمْسُ يومٍ جديد تُدَغْدِغُ وَجْهَ إيحا الذي اسْتَيْقَظ من نَوْمِه مَذْعُورًا. قفز وَاقِفًا مُحَدِّقًا في ما حَوْلَه. لا أَثرَ لمِيسا. هل فَشَلَتْ في مُهِمَّتِها ووَقَعَتْ في قَبْضَةِ بيبو وزَوْجَتِه؟ وإنْ تَمّ كَشفها فهل ستَكْشفه وتُقِرُّ أنَّه مَن دَفَعَها لاكْتِشَاف السِّر؟ أمْ أنها تاهَتْ في ظُلْمَةِ الليل في الغَابَة ولَم تَتَمَكّن مِن الوُصول للمَكان الذي اِنْتَظَرَها فيه وهو المَكان الذي كانا يلْتقيان فيه في الغابة. ثم يُعاتِبُ نفْسَه لأنه نام ويَتسَاءل كيْف لها أن تَراهُ عِنْد مُرورِها من المَكان وهو مُسْتَلْقٍ على العُشب في ظُلمة الليل. هل يَسير قَليلا في الغابة ليَبحث عنها؟ هل يَنتظرها قليلا؟ هل يَعود إلى القرية ليُتَابع ما الجَديد؟
يَسْتَمِع إلى خُطى بَعِيدة مُهَرولة آتِية مِن القرية
وصَوت العُشب المُنكَسر من آثارها. هل أَتَت؟ يُدَقِّق النَّظر فيَتراءى له من بعيدٍ جِسْم لا يُشبه جِسْم مِيسا. مَن يَكون؟ أحدُ الشُّيوخ الخَمسة؟ ما الذي أتى به إلى هنا على هذه السَّاعة المُبكِّرة؟ إنه يُناديه. ماذا يُريد؟
يَقتربُ منه الشيخ قائلا: إيحا أبحث عنك منذ ساعات. أمرَ بيبو أن يأْتُوا بِك حيًّا أو مَيِّتًا ومن يَأتي بكَ له بَركة بيبو وجنّةً وأنهارا من ذهبٍ وفضَّة . وقد انطلق أهل القَرية في البَحث عنك مُتَسائِلين ما الذي قُمْتَ به. تَعالى لتَخـتَبئ عِنْدنا وأخبرنا ما الأمر. لا مَفرَّ لك إلا حِمَايَتنا.
*****
الحُب الصَّادق هو الدَّواء الوَحِيد لجَميع الأمْراض دُون اسْتثناء. حُب الحياة مثلا يجعلنا نقاوم من أجل البقاء مهما قست الظّروف ويشفينا من الإحباط واليأس. حب الآخرين يجعلنا نُعطي بلا حساب ويشفينا من الأنانية والقسوة. الحُب يَمْنَح طاقة تُزيل حدَّة الآلام لِدَرجَة أنَّنا لا نَشْعُر بِها. ذَلك الشَّوق للحظات التي تكون فيها مَع مَنْ تُحِب يَجْعَلُكَ تَقِفُ على قدَميْك لتَسير إليه حتى وإن كُنْت تَنْزِفُ ولم يَتبقى فيك إلَّا قطرات قليلة من الدِّماء. أ ليْس حب الأوطان جعل الشهداء يُقاوِمون من أجْل أرَاضيهم حتى آخِر قطرة دمٍ دون اسْتِسْلام.
لكن الطَّامة الكُبرى عندما تعشَق شَخْصًا ظنَنْتَ أنّه يَعْشقك ويكون هُو من علَّمك العِشْق ومَعانيه لتَكْتَشِف أنك عَشِقْتَ خَيَالًا وإن مَن سقاك غَرَامًا لا يَعشقُ إلا نَفْسَه وإن تَعَلُّقَه بِك لَيس إلا أنَانِيَّةً أو انْبِهَارًا قادَه للاطْمِئْنان مَعَك والبَقَاء حِذْوَك. وتَكْتَشِف أن حُبَّه أخْذٌ دون عطاء وأن العطاء الذي كان يُقدِّمُه هو فقط جُزءً من مَسرحية جَميلة الإخراج ليُبْقي على تَعلقك به وإيمانك بصدقه.
هَكذا كان إيحا، لم يَكُن حُبّه لميسا حُبًّا بل أنانية
واستغلالا وطمأنينة إليها تُريحُ نَفْسَه. وإسْتخدامُها للإنْتقام من بيبو لما فَعَلَه بأُمه دليل واضح. لم يَكُن يَعْنيه أن ما سَتَقوم به ميسا يُمْكُن أن يُؤدي بها إلى الجحيم، أن يُنْهي حَياتَها وبِأبشع الطُرُق، أن تُصبِح نَكِرةً بين أهلِها في أحسَن الأحْوال.
رَغْم كل ذلك، فمُرور ذِكْرى إيحا في مُخيِّلَة ميسا تُخفِّفُ عنْها ألام الحَرارة وشِّدَّتها التي لم تُفارقها منذ أيام، تَأكُل جَسَدها وتُنْهِكُه كالنار التي رُبما كانت ستَلتهِمُها إذا لم تَعْتَرِف لسالي بكل ما أعدَّت القِيام به وتَكْشِف ما كَانت خَطَّطت له مع إيحا.
أتَكون هذه الحمَّى القاتلة عِقاب الرَّب لأنها غَدَرَتْ حبيبها وهو الذي منحها الثِّقَة العمياء ولم يَظُنَّ لَحْظَةً أنها سَتَخُونُه؟ عِقاب الحمَّى تُصاحِبه الكرامة التي لم تَهْدُرْها أَجْمَلُ بكثيرٍ من عُقوباتٍ أخرى تَصِلُ إلى الحَرْقِ يُصَاحِبها الذّل والعار من أجلِ شَخصٍ أناني بَرَعَ في تَمْثيل دَور العَاشق أو ربما كان يَظُن نفسَه عاشِقًا وهو أبْعَدُ مَا يَكُون على جوْهر العِشْق وجَمَالِه.
لم تُفَارِقْها سالي إلا بعض الساعات، تُغيِّر ضَمَّادَاتِها
وتُشْرِبُها مُنَقَّعاتٍ يُوصي بيبو بأعْشَابِها وحَشَائِشها. كما نادى بيبو كل أطباءِ تاجوت للْعِنَايَة بها لكِنَّها لَم تَتَحسَّن. لم يَرغَب وَالِدُها أن يَعود بها إلى البيْت، مُتَبرِّكِين بِطَهارة مَقام بيبو مِن ناحيةٍ ومُدْرِكِين أن الرِّعَاية التي تَتَلقاها لن تُمَاثِلَها رِعاية في أي مَكانٍ ٱخر.
تَشْتَدُّ الحُمَّى بميسا كأنها تُنْذِرُ بِنِهايَتِها القَرِيبة. يَنْتَظِرُ الجَميع سَماع الفاجِعَة إلا والِدَتَها التي لم تُصَدِّق إن ابْنَتَها تَسْتَعِد لِمُغادرة الأرض وتُجيب كل من يِسأل عن حالِ ميسا أنَّها تَتعافى وهي فَقط مُحْتَاجةٌ إلى الدُّعاء.
في الحقيقة، لمْ يَكُن أحد يَعْلَم هل أن ميسا تُصارِع من أجل البقاء على قيْد الحياة أم أنها مُسْتَسلمة لِلَهيبِ الحُمَّى، لكن ظن جميع أهل تاجوت أنها خيَّرَت الرَّحيل لمَّا سَمِعوا الدَّق على الطَّبْلِ العِملاق في المقامِ مُنادِيًا الكل إلى الاجْتِماع في سُرعة عند بيبو. لم يَسمع أحَد دق الطَّبل إلا في مُناسبَتيْن : المُناسبة الأُولى كانت قبل انْهِمار شديدٍ لأمْطارٍ عَرف بيبو أنّها سَتُغرق أغلب البيوت فجمع سكان تاجوت قبل فوات الأوان وعلى وجه السرعة في المقام الذي لا تصلُه أمطار الفيضان بحكم علوِّ موْقعه، والمُنَاسبة الثانية كَانت إعلان البَحث عن إيحا على وَجه السُّرعة بعد أن كشفَتْه ميسا لإلقَاء القبض عليه قبل أن يَلوذ بالفرار.
أما الإعلان على ذنْب أُمِّ إيحا فلم يَكُن خبَرًا طارئًا ولم يُقرَع الطّبل بل تمَّ نَقْلُه. فهل يكون خَبر مَوْت ميسا أمْرًا طارئًا يَسْتوجِبُ الاجْتِماع السَّريع لجَميع أهل القَرْية بالمَقام؟ هكَذا يتَحدَّثُون في مَا بيْنَهم وهُم يُهَروِلون -كَبيرًا وصغيرًا، رِجالًا ونسوة- نَحو المقام في مشهدً قلَّ أن تَعيشَهُ القرية.
* على امتداد سنة 2025 ننشر رواية "الفاضرضي"، في أجزاء بصفة دورية وذلك بالاتفاق مع الكاتبة ومؤلفة هذاالعمل رانيا الحمّامي، التي تمتلك حصريا حقوق النشر. وقد تم تقديم هذه الرواية من قبل الباحث والدكتور توفيق بن عامر، رئيس الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين. لمعرفة أكثر تفاصيل عن كاتبة الرواية يمكن زيارة موقع www.raniahammami.tn