بقلم : الروائية رانيا الحمامي
في زمن نعيش فيه على وقع ثورة معرفية غير مسبوقة، حيث يتقدّم الطب النفسي بخطى واثقة نحو فهم أعمق للإنسان وعقله، لا تزال بعض الأعمال الفنية تشدّنا إلى الخلف، بكل ما تحمله من محمولات ثقافية متخلّفة وأفكار ظلامية تشرع الجهل والشعوذة باسم الدين.
صادفت مؤخرا فيلما أثار في نفسي صدمة مزدوجة: صدمة المحتوى، وصدمة الرسائل المبطّنة التي يسوّقها دون وعي أو عن قصد وصدمة انه فيلم تونسي في حين كانت تونس أولى البلدان المغاربية التي حاربت الجهل بالعلم بكل الوسائل وكانت السباقة في البحوث والطب خاصة.
الفيلم ـ “زريعة ابليس”- الذي عرض مؤخرا في القاعات يعيد إنتاج ثنائية زائفة لطالما عانت منها مجتمعاتنا : العلم مقابل الإيمان لكنه لا يتناولها كموضوع صدام مشروع بين المعرفة الروحية والعقلانية العلمية، بل يختزل القضية في طرح سطحي يعيد للمشعوذين والسحرة سلطتهم القديمة تحت ستار ديني، ويحوّل الأطباء والمتخصصين إلى شخصيات عاجزة، تتخلى عن أدواتها العلمية لتلجأ بدورها إلى “براد وبصاق الشيخ المغربي” و الى “نكاح الشيخ بلقاسم”.
الفكرة
تتابع الدقائق الأولى بشغف، متوقعا أن تنفتح القصة على مواجهة واعية مع المعتقدات الموروثة، لكن سرعان ما تكتشف أنها لا تحمل معالجة لها بل إعادة إنتاجها. فلا يخطر ببالك في اللحظات الأولى من الفيلم أن يكون الفن وسيلة لتكريس التخلف عوض ان يكون أداة وعي. وكل ما تمر المشاهد التي تحمل الرسائل اللاغية للعلم وعلوم النفس مقابل الإيمان بالسحر والشعوذة، مستندا على العقيدة والدين في قراءة سطحية تفتقر للعمق والمعرفة الحقيقية بمقاصد النصوص، يعتريك أمل أن النهاية ستنفض كل ذلك لتكتشف في النهاية انه أمل خائب.
يصور الفيلم المرضى النفسيين كضحايا مس وسحر وتصفيح ويحول الأطباء من باحثين مختصين في تفسير الأمراض العصبية والنفسية وعلاقتها بالجسد والسلوك إلى شيوخ ومقرئين يرون أن العلاج لا يكون إلا بالقرآن.
فيبدو الفيلم وكأنه دعوة غير معلنة إلى التداوي برعوانية بعيدا عن أي تفسير علمي أو مقاربة طبية حديثة، في انحدار فكري خطير.
على مستوى النص والسيناريو
يعاني الفيلم من مشاهد وحوارات مطولة جدا، مثل الحوار الذي دار بين الطبيبين والذي لا تتماشى في العادة مع طبيعة السيناريوات السينيمائية، فتشعر أنك أمام درس يلقيه أحد الشيوخ للتعريف بأنواع التصفيح والجن وأعراض المس، أو المشهد الطويل الآخر للدعاء وقراءة القرآن، في تكرار متواصل يستنزف صبر المتفرج دون أن يضيف قيمة درامية حقيقية.
النهاية
وعلى أمل أن تكون النهاية، بمثابة تصحيح لكل ما سبق، برؤية المريضة في غرفة المستشفى، لعلها تلخص أن مهما بدا لنا الحل في الموروث، ومهما توهمنا أن السحر والشعوذة والتداوي بالرقى حل، للتأكيد أنه ليس علاجا حقيقيا. لكن الغريب أن الفيلم لم يغتنم حتى هذه اللحظة الأخيرة ليصحح مساره. بل ظهرت الشخصية التي تمثل الشر لتأكد أن سبب عودة المريضة إلى المستشفى هو لتجديد السحر، في تثبيت لفكرة أن المرض من السحر والعلاج بيد الساحر والشيخ والموروث، لا في يد الطب والعلم.
ويتبدد الأمل الأخير في أن تكون النهاية تفكيكا للجهل، لتصبح الدقيقة الأخيرة تكريسا له.
رسائل ومسؤولية اخلاقية
فيلم بهذه الرسائل، وبهذا المستوى من التعامل مع الدين والإنسان والعقل، لا يليق بصورة تونس وسعيها للعلم والنهوض ولا يليق بأطبائها ولا شعبها. ومن الخطر اعادة إنتاج الجهل في ثوب حداثي، يمزج بين الصورة البصرية والطرح السردي فينتهي الأمر بالجمهور إلى تبني تلك الأفكار لا عن قناعة فكرية بل عن تعاطف عاطفي خلقته السينما.
فالسينما مسؤولية أخلاقية وفكرية، وحين تشرع الجهل باسم الدين وتمنح الشعوذة سلطة، تصبح شريك مباشر في تجهيل المجتمعات.
كما أن عظمة القرآن أكبر من أن تختزل في قراءة ظواهر سطحية، وأن الإيمان لا يتعارض مع العلم، بل يكتمل به. والعلاج النفسي له أصوله، ولا يجوز أن يتحول الإنسان إلى ضحية خرافات يضيف اليها الفن شرعية. ليست المشكلة في الموروث الشعبي بحدّ ذاته، فلكل مجتمع ذاكرته وعقائده. لكن الخطر في أن تتحول السينما ـ باعتبارها أداة فكرية بالأساس ـ إلى منصة لإعادة احياء الجهل. من واجب السينمائيين أن يتجاوزوا منطق استجداء الإثارة، إلى منطق إنتاج أفلام تطرح الأسئلة وتكشف الزيف لا أن تشرعه.
الأمل قائم في سينما عقلانية تحترم وعي المشاهد، وتواجهه بحقائق عصره، لا بأوهام أسلافه. أفلام تعالج الدين كمنظومة قيم إنسانية لا كترسانة تعاويذ. سينما تعيد للمريض النفسي كرامته، وللعلم مكانته، وللمجتمع أدوات تفكيره الحر. فنحن بحاجة إلى سينما تحرر العقول لا تسجنها في وهم المس والسحر.