عمل صحفي: أمل الصامت ومحمد عبد القادر
في قلب المدن التونسية، حيث يفترض أن تكون الطرقات ووسائل النقل العمومية والخاصة فضاءات آمنة للجميع، تتزايد بصمت حالات العنف الجنسي والتحرش، لتتحوّل إلى ظاهرة تؤرق النساء والرجال على حد سواء وتقيّد حركاتهم.هن اليومية.
رغم ترسانة النصوص القانونية التي تجرّم هذه الأفعال، ورغم حملات التوعية التي تتكرر بين الحين والآخر، إلا أن الواقع لا يزال يعكس هشاشة الحماية الفعلية في الفضاءات العمومية، وخاصة في وسائل النقل العمومي والخاص.
نساء كثيرات ورجال، من مختلف الأعمار، يحملون.ن في ذاكرتهم.هن قصصًا مؤلمة وقاسية، بعضها لم يُروَ قط خوفًا من الوصم، أو من شعور داخلي بالعجز والذنب. الحافلات، سيارات الأجرة، عربات المترو… كلّها تحوّلت، في نظر العديد من التونسيين والتونسيات، إلى أماكن مهدّدة، لا لكونها غير صالحة للنقل، بل لأنها قد تتحوّل في لحظة صمت إلى مسرح لانتهاك الكرامة الجسدية والنفسية.
في هذا السياق، تروي فاطمة (اسم مستعار)، إحدى الناجيات من تجربة تحرش جنسي في حافلة عمومية، قصتها بكل ما فيها من ألمٍ لم يُمحَ رغم مرور الزمن…
“ما زلت أرتجف كلما صعدت إلى حافلة مكتظّة” — بهذه الكلمات الموجعة بدأت فاطمة (اسم مستعار) روايتها لما حدث قبل سنوات، لكنها تؤكّد أن الذاكرة لم تخفت، وأن الألم لا يزول بالتقادم. كانت في طريق العودة من عملها ذات مساء مزدحم، حين امتدت يد غريبة في مكان يفترض أن يكون آمناً. تحرّش جنسي فجّ وسط صمت الركّاب، وذهول الضحية، وصوت داخلي يصرخ: “لماذا لم أفعل شيئاً؟”. اليوم، ورغم مرور الوقت، تجد فاطمة الشجاعة لتروي قصتها، وتكشف عن ندوب خفيّة تركها ذاك اليوم في جسدها ونفسها، في محاولة لكسر الصمت الذي يحيط بآلاف النساء ممن يعشن الصدمة ذاتها.
في تونس، بات تهديد العنف الجنسي والتحرش في الفضاءات العامة وفي وسائل النقل واقعا مقلقًا يتكرر يوميًا، مخلفًا أثرًا نفسيًا عميقًا على ضحاياه نساء كانوا أم رجالا، وإن كانت النسب المعلنة تبين تعرض النساء والفتيات بصفة أكبر من الرجال لهذه الاعتداءات.
العنف صامت والأرقام تنطق…
حسب القانون عدد 73 لسنة 2004 مؤرخ في 2 أوت 2004 المتعلق بتنقيح وإتمام المجلة الجنائية بخصوص زجر الإعتداءات على الأخلاق الحميدة وزجر التحرش الجنسي، “يعد تحرشا جنسيا كل إمعان في مضايقة الغير بتكرار أفعال أو أقوال أو إشارات من شأنها أن تنال من كرامته أو تخدش حياءه وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغباته أو رغبات غيره الجنسية أو بممارسة ضغوط عليه من شأنها إضعاف إرادته على التصدي لتلك الرغبات”.
ويعتبر التحرش الجنسي انتهاكا لحرمة المرأة الجسدية والمعنوية وشكلا من أشكال العنف الجنسي الذي عرفه القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المؤرخ في 11 أوت 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة بأنه “كل فعل أو قول يهدف مرتكبه إلى إخضاع المرأة لرغباته أو رغبات غيره الجنسية باستخدام الإكراه أو التغرير أو الضغط وغيرها من وسائل إضعاف وسلب الإرادة وذلك بغض النظر عن علاقة الفاعل بالضحية”.
في نوفمبر 2021، كشفت حملة لشركة نقل تونس بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات والتوثيق والاعلام حول المرأة (الكريديف) وعبر 36 محطة في تونس الكبرى أن واحدة من كل أربعة نساء تعرضت لأشكال من العنف، لفظيا كان أو نفسيا أو جسديا، أثناء استخدام وسائل النقل العمومي.
هذه الأرقام لعلها تدعم ما جاء في التقرير الوطني لوزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن حول مقاومة العنف ضد المرأة في تونس لسنة 2021 (آخر تقرير نشر على الموقع الرسمي للوزارة)، والذي سجل أن 4% من المعتدين على النساء ارتكبوا عنفًا في فضاءات عامة، و10% من المعتدين لم يكونوا معروفين للضحية، وهو ما يرجح أن يكون جزء منهم قد نفّذ اعتداءات جنسية أو تحرشا في أماكن مثل الشوارع ووسائل النقل.
ورغم أن هذه الأرقام تبدو ضعيفة ظاهريا، فإنها في الحقيقة تعكس قمة جبل الجليد فقط، لأن أغلب النساء لا يُبلغن عن التحرش أو العنف الجنسي في الأماكن العامة. بل تؤكد تقارير الخط الأخضر المخصص للإشعار بالعنف ضد النساء أن العنف الجنسي لا يمثل إلا 10% من الإشعارات، في حين يتصدّر العنف المعنوي بـ84%، والعنف المادي بـ72%.
وعلى صعيد النظرة العمومية، يؤكد استطلاع أجرته شبكة البحث والاستطلاع الإفريقية “أفروباروميتر” سنة 2024، أن 40٪ من التونسيين يقرّون أن النساء في بلادهم يتعرضن للتحرش الجنسي “غالبا” أو “دائمًا” في الأماكن العامة، ويعتقد ثلثا التونسيين (66%) أنه ينبغي بذل جهد “أكبر بكثير” لحماية النساء والفتيات من هذا النوع من الاعتداءات.
تجلس فاطمة اليوم في آخر المقعد داخل سيارة أجرة، تنظر عبر النافذة بصمت، وتحسب في ذهنها كم من الدنانير ستنقص من ميزانيتها مقابل هذه الرحلة القصيرة. لكنها لا تندم.
تقول، بنبرة حزينة ممزوجة بصرامة امرأة تعبت من الصمت: “منذ تلك الحادثة، أصبحت لا أستقل الحافلة إلا إذا انطلقت من المحطة الرئيسية. هناك فقط يمكنني أن أجد مقعدا شاغرا، فأجلس وأتفادى الاحتكاك… أتفادى الخوف. وإذا لم أستطع، فأُفضل التاكسي، حتى وإن كلفني ذلك مالا كان حريا أن أنفقه في التزامات ملحة أخرى غير نفقات التنقل إلى العمل ومنه.”
تشرح فاطمة أن الأمر لم يعد مجرد حادثة عابرة، بل تحوّل إلى حالة مستمرة من الترقب والتوجس. “أصعد الحافلة، وعيناي تلاحقان كل حركة. لا أستطيع أن أقف مطمئنة. يدي تحيط بحقيبتي، ظهري ملاصق للجدار أو العمود، أحاول أن أحتل أقل مساحة ممكنة، وكأنني أعتذر عن وجودي”.
تتنهد قبل أن تضيف: “خسرت حقي في استعمال وسيلة نقل يفترض أنها آمنة لكل التونسيين والتونسيات، فقط لأحمي جسدي ونفسيتي. وكأن الأمان أصبح امتيازًا وليس حقًا.”
ما روته فاطمة لا يمثل حالة استثنائية، بل يعكس معاناة متكررة تتقاسمها آلاف النساء في تونس. ففي كل حافلة مكتظة، في كل محطة انتظار، تقف النساء وهنّ يحملن في داخلهن سؤالًا صامتًا: هل سأصل إلى وجهتي دون أن يُمسّ جسدي أو تُهدّد كرامتي؟
وفي هذا الإطار، تؤكد المحامية والحقوقية حسينة الدراجي أن الإشكال الأساسي في مواجهة هذه الجرائم يكمن في صعوبة التوثيق والإثبات، خاصة في وسائل النقل العمومية أو الخاصة.
وتوضح: “الضحية لا تكون مستعدة أصلًا لمواجهة اعتداء جنسي حتى تفكّر في توثيقه أو تصويره. هي لحظة مباغتة، صادمة، وغالبًا لا تملك فيها سوى الصمت أو الهروب. نادرًا ما تستطيع امرأة أن تُخرج هاتفها وتوثّق الواقعة، إلا إذا تكررت الحادثة، وربما من نفس الشخص.”
وتُضيف أن القوانين الحالية لا تسمح بالتصوير في الفضاءات العمومية دون إذن، إذ يخضع ذلك لشروط دقيقة، ما يُعقّد عملية الإثبات. لكن الدراجي تدعو إلى مراجعة هذه القوانين: “عندما يتعلق الأمر بحالة تهديد أو اعتداء، لا بد من تكييف النصوص القانونية مع الواقع. من غير المعقول أن نمنع التصوير بينما نطالب المرأة بإثبات الاعتداء!”
في المقابل، ترى الأستاذة الدراجي أن الإثبات يصبح أسهل حين يكون العنف عبر الفضاء الرقمي، وهو ما يُعرف بـ”التحرش الإلكتروني”: “العالم الافتراضي أيضًا فضاء عمومي، لكن طبيعة الاعتداءات فيه تترك أثرًا ملموسًا: رسائل، صور، محادثات. وهذا يسهل على الضحية التبليغ ويجعل التتبعات القضائية أكثر فاعلية، خاصة في حالات الابتزاز والتحرش الجنسي الرقمي.”
وفق التقرير الوطني لسنة 2024 الصادر عن الاتحاد الوطني للمرأة التونسية، تم استقبال 979 امرأة ضحية عنف (إضافة إلى أطفالهن) خلال الفترة الممتدة من جانفي إلى أكتوبر 2024.
وبلغة الأرقام، تم تسجيل 88 حالة عنف في الفضاء العام (العمل أو مكان عمومي)، أي 9% من مجمل القضايا الموثقة. كما بلغ عدد النساء ضحايا العنف الجنسي 49 حالة، أي ما يمثل 5% فقط من مجموع الضحايا.
لكن هذه النسب المنخفضة لا تعني أن التحرش والعنف الجنسي في الفضاءات العامة ظاهرة نادرة، بل تكشف عن ضعف ثقافة التبليغ، والخوف من الوصم، واللجوء إلى الصمت كوسيلة للحماية النفسية.
ورغم تعدد مراكز الإيواء والإحاطة في مختلف الجهات، فإن أكثر من نصف النساء اللواتي تلقين خدمات استشارية (313 امرأة) احتجن إلى إحاطة نفسية، في دليل على الأثر العميق والدائم الذي يخلفه العنف، مهما كانت طبيعته أو مكان حدوثه.
بين الحق في التنقل والخوف من الانتهاك؟!
رغم مرارة ما تعرضت له، لم تفكر فاطمة يومًا في التوجه إلى مركز الشرطة أو رفع قضية. “لم يكن الأمر سهلاً،” تقول بصوت خافت، “لكنني كنت أعلم جيدًا ما ينتظرني: نظرات شك، أسئلة تُحمّلني المسؤولية، وربما سخرية مبطنة.”
سكتت لحظة ثم تابعت: “في مجتمعنا، حين تتحرش بك يد غريبة، تُسأل أنت: لماذا كنت هناك؟ كيف كنت تلبسين؟ هل تصرفت بشكل مستفز؟ يُشكك في روايتك، في نواياك، في كرامتك. لهذا صمتُّ، مثل الآلاف غيري.”
تقول إنها لم تكن تخشى المعتدي بقدر ما كانت تخشى النظرة الاجتماعية التي تجرّم الضحية وتبرّر للمعتدي. شعرت بأن التبليغ قد يعيد عليها الاعتداء مرة أخرى، لكن هذه المرة بالكلام والأحكام الجاهزة.
توضح بمرارة: “التحرش آلمني، لكن الصمت المجتمعي كان أقسى. لم أجد سندًا، لا في الحافلة، ولا في القانون، ولا حتى في حكايات النساء اللواتي عشن التجربة مثلي… كلنا نلوذ بالصمت، لأن الصمت أرحم من الاتهام.”
وهكذا، اختارت فاطمة أن تدفع من راحتها ومالها مقابل ألا تعيش الكابوس من جديد. لكنها، بعد سنوات من الحادثة، قررت أن تتحدث، لا طلبًا للشفقة، بل لتقول بصوتها: “لستُ مذنبة، ولن أقبل أن أخجل من شيء لم أرتكبه.”
تؤكد رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية والمحامية راضية الجربي، أن العنف والتحرش الجنسي ليس حكرًا على النساء فقط، بل يشمل أيضًا الرجال والأطفال من الجنسين، وفق ما يرد إلى الاتحاد من شهادات من قبل ضحايا أو من قبل أقاربهم.
وتوضح لرياليتي أون لاين بالعربية أن الإطار القانوني وحده لا يكفي، حتى وإن حمل عبء الإثبات على الجاني، بل يجب توفير آليات حماية فعالة للشهود: “حتى يتجرّأ الشاهد على الإدلاء بشهادته في قضايا التحرش والعنف، يجب أن نضمن له الحماية اللازمة، لأن الخوف من الانتقام أو التهميش يدفع الكثيرين للصمت، وهو ما يضاعف من عزلة الضحية ويضعف فرص الإنصاف.”
وتنتقد الجربي الوضع العام لوسائل النقل العمومي، مشبّهة مشاهد الاكتظاظ اليومية بما يُرى في المدن الكبرى المكتظة كالهند: “حين تعاني الحافلات والمترو من الاكتظاظ والفوضى، تصبح بيئة خصبة للتحرش، ولا يمكن الحديث عن الوقاية أو الردع في ظل هذه الظروف.”
وترى أن مواجهة الظاهرة تتطلب أكثر من تعديل القوانين، بل تشمل كذلك إصلاح منظومة النقل، وتغيير العقلية المجتمعية من خلال التربية والتعليم منذ الطفولة، مضيفة: “نحن نعيش في ثقافة تُحمّل الضحية الخطأ، وتمنح للجاني التبرير. هذا الخلل في التمثّل المجتمعي يجب أن يُعالج في المدرسة، في الإعلام، وفي التشريعات نفسها.”
قصة فاطمة كامرأة وحتى قصص الرجال والأطفال ذكورا كانوا أو إناثا.. كل القصص المسكوت عنها تفضح الصمت المجتمعي، وتكشف هشاشة الردع القانوني، وتؤكد أن التحرش في الفضاءات العمومية ليس فقط انتهاكًا لحظة حدوثه، بل ندبة تلازم الضحية لسنوات.
هو عنف يفرض على النساء وأحيانا الرجال تغيير ممارساتهن.هم اليومية، والتنازل عن حقوقهن.هم، وتحمّل كلفة نفسية ومالية مضاعفة فقط للتمكن من التحرك بحرية.
فهل يُعقل أن يكون ثمن الأمان… صمتًا وخوفًا ومقعدًا مدفوعًا غير مضمون هو الآخر أن يكون آمنا؟