بقلم رانيا الحـمّـامي
الإهداء
إلى الباحثين على النور وسط الظلام،
إلى زارعي الحب أينما مرّوا،
إلى رعاة السلام في كل مكان،
إلى باعثي الحياة في فاقدي الأمل،
إلى أصحاب العزائم والإرادة،
إلى محاربي الوهن والضعف،
إلى كل من يرفض أن تهدمه الهزائم،
إلى من قرّر الحياة.
في قاعة ضيِّقة تُغطِّي جوانِبها ألواح رَقمية، تَسْتَرسل عليها كِتابات ضَوئية وطنين لا يَنقطع يملأ المكان، يَقف أحد الشيوخ بين جِسمين يُماثلانه طولا، يَحملان على الرأس غِطاءً مُربع الشكل يَحمل في أحد جوانبه لَوحة رقمية تُشابه اللوحات المُحيطة بالقاعة، وغِطاءً آخر على الجِسم يُشبه صُندوقا مُستطيلا من مَادة تُشابه خليطًا ممزوجًا من مطاط وجلد وخشب. تَنبثق أَصوات آلية غير مَفهومة من الجِسمين تُوحي بالتَّواصل فيما بَيْنَهما.فجأة يَنطلق أحد الجِسمين بالحديث مع الشيخ بكلمات آلية غير مُسترسلة : نُقدِّرُ جُرأتك وشَجاعتك للتواصل معنا. لقد أَتيت في الوَقت المُناسب، لقد انْتَهيْنا اليوم من التَّمكُّن من لغتكم. لقد بَقينا هنا ولم نُغادر مَركبتنا وقتا لا بأس به حتى نَجمَع – عن بُعد – أكثر ما يُمكن من الكَلمات التي تَتفوَّهون بها ونُحاول فَهمها وبَرمَجَتها عبر آلاتنا فتَتحوَّل ألْفاظكم إلى لُغتنا وتَتحوَّل ألفاظنا التي ننطق بها إليكم إلى كَلمات تفهمونها وتتحدَّثون بها.
ينظر الشيخ في ذُهول تام إلى الجِسم الذي صدرت منه هذه الكَلمات.
صوت آلي من جسم آخر: لا تَندهش. نحن سكان كوكب “رام”. لا نَتكلَّم لُغتَكم ولا نُشبه أجْسادكم ولا نَعيش مِثلكم كما أن طَبيعَتكم لا تُلائِمنا ولا يُمكننا العيش إلا بهذه الأغطية طويلا. طوَّرنا من وسائلنا للتواصل معكم. وقبل الانفجار الكبير على كوكبكم، كنا قد نجحنا في التواصل مع أحد سُكان الأرض.
الشيخ: ماذا تُريدون منا؟ لماذا تَتواصلون معنا؟
و لماذا أَتيْتُم إلى كوكبنا؟
صوت آلي: تَواصلْنا مَعكم قبل الانفجار لتَبادُل المَعارِف والمَصالح بين كَوكبيْنا. لكن اليوم، نحن هنا لسبب آخر. تَصلُ إشارات وَاضحة إلى كَوكبنا أن لنا ابْنًا يَعيش هنا، على الأرض. قَريبا من هذه المِنطقة. نَفْتقد الإشارة وكل الذَّبْذبات عند اخترَاق الغِلاف الجوي الأرضي. ولهذا السبب نَفقد أَثره الآن.
الشيخ: ابْن؟ ما أَتى به على كَوكبنا؟ هل سَبق
أن زُرْتم الأرض؟
صوت آلي: هو ابْن هَجِين، يَجمع بَينكم وبيننا. قرَّرنا صِنَاعته باتفاق مع تَقْني قبل شَهريْن حَسب تَوقيتكم الأرضي من الانْفجار الكبير وكنا نظن أنه تَلاشى مع الانفجار لكن الإشارات التي وصلت مُؤخرا كوكبنا تُفيد إنه هنا، بَينكم.
يُخمّن الشيخ ويُحدّث نفسه: هل يَكون بيبو هو التقني؟ لا. أظن؟
صوت آلي: أَعتقد أن لا عِلم لك بالانْفجار الذي حَصل على كَوكب الأرض فَحسب أَبحاثنا لم يَبق أحد حيًّا. ولا نَعلم كيف أَعدتم إعمار الأرْض مُجدَّدا. ربما بَقي بِضعة أنفار دون أن يَلقوا حَتفهم.
الشيخ: نعم وأنا منهم.
ثم يتوجه إلى أحد الجسمين بالكلام: ما هو اسم ذلك التَّقني؟
صوت آلي: التقني عدد 1111111.
الشيخ: لم يَمدّكم باسْمه بل بِعدَدِه الآلي.
صوت آلي: هَل يُمكن أن تَعرف من يَكون؟
الشيخ: لا. في الأغلب لقي حَتفه. فَما بقي من الأحياء إلا قلَّة قَليلة جدا، تَكاد تكون مُنعدمة.
صوت آلي: يَهمّنا ابننا ونحن مُتأكِّدون أنه مَوجود بينكم. نحن نَستعد لإطلاق إعلان وإنذار للإعلام أننا نَبحث عن ابننا وأنه عليكم- أنتم سكان تاجوت- أن تَأتونا به. وإن رَفضتم، فسَنُبيد كل من يُوجد هنا عبر غاز لا يَنجو منه إلا ابننا لما يَحمِله من جينات تَحْتَمل هذا الغاز فلا يُؤثِّر به أي تأثير.
يجيب الشيخ مذعورا: نَحن مُسالمون لا رَغبة لنا في أَذِيَّتِكم ولا حَاجة لكم لإبادَتِنا.
يَصمُت قليلا ويُضيف: إعلانَكم بهذا الشكل ربما يدفع البعض للتهجم عليكم أو حتى التخلُّص من ابنكم وقَتْله لكي لا تَسْترجعوه ولا يُمكن لأحد حِمايته من ذلك. لكن يُمكنني أن أُعينَكم على إيجَاده بشَرط.
صوت آلي: لا تُعيننا على إيجاده بل تَأتي به إِلينا.
الشيخ: حسنا. آتي به إليكم بشرط.
صوت آلي: أخبرنا به؟
الشيخ مبتسما : التخلُّص النهائي من المَدعو “بيبو”.
صوت آلي: بيبو.
ثم يأتي صوت آلي من الجسم الآخر: بيبو.
*****
في بهو المقام، تَركض سالي نحو بيبو صارخة : “بيبو ، بيبو ، لقد استفاقت ميسا”.
ما قَامت به ميسا جَعل سالي تَعتبرها ابنةً لها
وتُحبُّها صادقةً مَحبَّة الأم لابْنتها. فحب ميسا الجارف لإيحا لم يَتفوَّق على الِإخلاص لبيبو وسالي، وعَدم قِيامِها بالمُهمَّة القَذرة رَغم سُهولَتها يُثبت نَقاوة مَعدنها والمَرض الذي طال بها يُؤكد أن ما عاشتْه من صِراعاتٍ دَاخلية ليس بالأمْرِ الهيِّن.
تَعود سالي رَاكضة نَحو ميسا وتُعانِقُها بحرارة. تَنطلق في الكلام لتُعبِّر لها عن مدى خَوفها عَليها وحبها لها فيَخْنُقها البُكاء وتَكتفي باحتضانها.
يَقترب منهما بيبو ويَنظر بِشفقةٍ إلى ميسا قائلا: ابْنتي، سَعيد لاستفاقتك. سَأستعد للذهاب إلى القرية وإخبار عائلتك بسلامتك.
لم تُدرك ميسا بَعد أن أهل تاجوت مَمْنوعون من الصُعود إلى المَقام بتعلَّة الخَوف عَليهم من الصحن العملاق في سَعي من بيبو لإخْفاء سر الصراخ الذي صار يَقطع الصمت الرَّهيب للمكان بيْن الفينة
و الأخرى.
فميسا لا عِلم لها بِكل ما كان يَدور حَولها. كانت فقط في غَيبوبة تَلعب فيها دَور الحاكم بين إرادة الحياة وإرادة الموت، إلى أن انتصرت إرادة الحياة.
سالي: ميسا. حَبيبتي من الآن سَتكونين ابنتي. ابنتي بحق. هل تَقبلين ذلك؟
أومأت ميسا برأسها مُوافقة وابتسمت قائلة: أُناديك أمي.
قَطع كَلماتها صُراخ آتٍ من مَكان قريب، بدا لها صادرًا من القبو. ارْتعبت ميسا لكن سالي طَمأنتها وطَلبت منها أن لا تَسألها على مَصدر الصوت.
في ظُلمة الليل يَسير بيبو نَحو القَرية مُخمِّنا في طَريقة ذكيَّة يَكشف بها ما بِداخل الصحن العملاق وما يَحتويه. ففرْقٌ بين أن يَكون حَاملا لمجموعة آلاتٍ وأن يَكون به كائنات فَضائية. مَازال يَذكر كيف كان يَتعامل مع كائنات فضائية من كوكب “رام” قَبل الانفجار الكبير وكيف أقنع سالي أن يَحمل ابْنهم جينات من كائنات فضائية تَحصَّل عليها عَبر أَثيرِ مَوجاتٍ مشفرة.
سَقط بيبو أرْضًا. لم يَنتبه لضَوضاء شَابين من شَباب الحِراسة الصَّاعدين إلى المَقام لإخبارٍه بتحرُّكات الصحن الذي فُتِحت قُبَّته ثم أُغلقت. إصْطَدَما به إذْ لم يُلاحِظا وُجوده في الظُّلمة فقد كان يَسير – غارقا في أفكاره – دون إحداث ضَجيج.
يَتَّجه بيبو والشَّابان مُسرعين نحو الصحن العِملاق.
فجأة، يَطرُق أَذانهم صَوت آلي يأتي من بعيد:
“نُريد بيبو حيًّا أو ميِّتا وإلا فَإننا سَنُبيد كل سكَّان القرية ولن نَترُك أحدا على قيْدِ الحياة. أُقتلوه إن لم تَتمكنوا من جَلبه حيًّا وأؤْتوا به إلى مَركبتنا”.
*****
بيبو: أن أُطلَبَ حيًّا أو ميّتا فذلك يعني أنهم يُريدون حَتفي. لن أُجازِف بالظُّهور إلا بَعد التَّأكد من حُسن نيّتهم.
سالي: عليك الاختفاء حالا ولنَبقى على اتصال. ستكون ميسا وَسيطا بَيني وبينك. فتَحرُّكاتي ستَكون مُثيرةً للانتباه وسَيَتِمُّ مُراقبتي على عَكس ميسا.
بيبو: أوّل ما سَيقومون به هو البَحث عني في القَبو والبَحث عمَّا يُوجد دَاخله .
سالي: دَاخله؟ لا مَعْنى لِحياتِنا دونه. بيبو، حَبيبي عليك الاختفاء في المَبنى السرّي الذي اختفينا فيه عند الانفجار الكبير.
بيبو : ستَكتشف ميسا المكان.
سالي: سيكون لِقاؤكما بعد يَومين عند الشَّجرة المُقدَّسة في الغَابة العُظمى. وكل مرّة تلتقيان فيها حدِّدا مكان اللّقاء الذي يليه. ستَحمل لك أكلا وشُربا وكل مُجريات الأحدَاث بالقرية. وحَمِّلها بما يجب علي القيام به.
بيبو : ما عليك فِعله الآن هو مَعرفة سبب بَحثهم عني وماذا يُريدون فِعله بي. ثُم عَليك تَحضير شباب يُعَوَّلُ عليهم لِخوض المَعركة معهم. الدُّخول إلى مَركبتهم وإيجاد شيء يُضعفهم لنَتمكَّن من مُحاورَتِهم ندّا لند.
سالي: لا تَخشى شيئا. سَيكون كل شيء على ما يُرام.
بيبو : لن يَهدأ لي بال إلا بِرُجوع هؤلاء من حيث جاؤوا ودُون إلحاق أي ضَرر بتاجوت.
يَتعانقان بشدَّة كأنهما لن يلتقيا مُجدَّدا. علاقتهما لم تكن فقط علاقة حب بل احتواء وصداقة. تَقاربهما الفكري جَمعَهما قبل الانفجار الكبير وبعده. يَسيران بخطى ثابتة وإن كانت بطيئة نحو الرؤى التي يَتقاسمانها. سَيتفرقان لأول مرة مُنذ لقائهما الأول.
والخَطر الدَّاهم هذه المرَّة يَفوقهما قوَّة : كائنات فضائية.
* على امتداد سنة 2025 ننشر رواية "الفاضرضي"، في أجزاء بصفة دورية وذلك بالاتفاق مع الكاتبة ومؤلفة هذاالعمل رانيا الحمّامي، التي تمتلك حصريا حقوق النشر. وقد تم تقديم هذه الرواية من قبل الباحث والدكتور توفيق بن عامر، رئيس الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين. لمعرفة أكثر تفاصيل عن كاتبة الرواية يمكن زيارة موقع www.raniahammami.tn