غنّى الهامش، صاحب الشارع في وجعه، وسكب في المايكروفون ذاكرته، خط سطور الحياة بتعبيرات حميمة، لبعلو صوته على ركح مهرجان دقّة الدولي، في ترجمة حيّة لحلم أوركسترالي ظلّ يتخمر في روحه منذ سنتين.
هو مغني الراب عمر الطويهري “جنجون”، الذي كشف، منذ سنتين، في الندوة الصحفية التي تلت عرضه في مهرجان الحمامات الدولي، عن حلم يتمثل في توزيع جديد لأغانيه بمسحة أركسترالية وعرض مدروس في جميع تفاصيله.
وعلى ركح مهرجان دقة الأثري لم يكن عرض “جنجون” مجرّد حفل، بل كان ولادةً ثانية لأغانيه، وطقس عبور عزفت فيها الكمنجات وجع الحنين، وحملت التوزيعات الموسيقية الأغاني إلى مساحات أخرى.
كان الركح مشهديا بامتياز، كل خطوة مرسومة، كل التفاتة محسوبة، لا ارتجال في الأداء، بل انضباط صوفيّ لحلم يشكله جنجون والأوركستر السمفوني بقيادة المايسترو محمد بوسلامة على مسرح أثري عتيق، يضجّ بالأصوات التي تعبر الذاكرة وتعيد صياغة العلاقة بين عوالم “الراب” و”البوب” والموسيقى السمفونية.
منذ لحظة ظهوره، بدا “جنجون” متصالحا مع الزمن الجديد لروحه، ومخلصا لحكاياته الأولى حيث الكلمات أقرب إلى البوح منها إلى الاستعراض، في ولادة فنية لا فيها من الحلم ما يكفي لتكون بداية ملهمة.
20 عازفا اعتلوا ركح دقة الأثري، بقيادة محمد بوسلامة ليعيدوا صياغة الجمل الموسيقية ويمنحوها بعدًا مسرحيا أوركستراليا، تبدو معه كل أغنية عرضا قائما بذاته.
الكورال أيضا كان حاضرا في تجل للحضور الراسخ لجمعية “Tunisia 88″ الذي لم يكن مجرد مرافقة صوتية بل امتداد للحلم الذي تقاسم جنجون ومديره أعماله واهب الشرقي و”آزر” الذي رافقهم على آلة “séquenceur”.
حضور فتيان وفتيات من الكورال العربي والأوركسترا لتونس88 بما هم نتاج نوادي فنية في معاهد مختلفة من الجمهورية فيه وسع الدوائر الشعورية لكل مقطع، من “حيّالة” إلى “شوارع طافية”، و”ما سمعوني” و”يا مالي البيت”.
هذا الحضور اعتبره كل من الفنان جنجون والمايسترو محمد بوسلامة إضافة للعرض وروحا جديدة أضفت حماسة وشعلة على تفاصيله على اعتبار مشاركتهم في العزف وفي الغناء.
من بوح فردي تحولت أغاني “جنجون” إلى تناغم جماعيّ تحدثا عنه في لقاء صحفي عقب العرض، إذ أجمعا عن الانسجام والارتياح المتبادل، مؤكدان أنه لا وجود لعبة صعوبات تتعلق بإعادة توزيع الأغاني أوركستراليا.
وفي هذا السياق، قال المايسترو محمد بوسلامة إن “جنجون” بارع وبفهم أغاني جيد ومتحكم في تفاصيلها، مشيرا إلى أن الكتابة الاوركسترالية تمت على الموسيقى الأصلية آلت كتبها أيمن عزيز صالح كما هي.
ومن المنتظر أن تتطور هذه النسخة من العرض الذي عرف تناغما بين كل أعضائه منذ التمارين الأولى ويمكن أن يشمل 60 أو 70 عازفا مع إضافات آلات نفخ، وفق حديث بوسلامة.
ومن جهته، قال الفنان عمر الطويهري ” جنجون” إن الارتياح شاب العلاقة مع المايسترو محمد بوسلامة الذي تقبل الفكرة حينما كانت حلما بصدر رحب وأعرب عن دعمه المادي والمعنوي لها.
كما تحدث عن التناغم ومكرونة التواصل مع الاوركستر خاصة وأن موسيقى الأغاني وحدت في سياق “جام ساشن” وليس “فري بيت “، على حد قوله.
في التمارين، كما في العرض، لم يكن هناك ما يُثقل التجربة، بل فقط موسيقى تُنسج بصيغة مشتركة وتُعزف بحسّ جماعيّ في نسخة أولى من حلم “جنجون” ، ويُسجّلها في ذاكرته كما سُجّلت في البروفة الأولى بكثير من التناغم.
بين أغاني جنجون التي رسخت في ذاكرة الجمهور من اليوتيوب وعرضها في حلة اوركسترالية، صاغ لمدونته أفقا جديدة دون أن يفقدها ملامحها الأولى التي ظهرت في “شوكايز” مستقل بذاته غنى فيه “زين الزين” و”دقي بابي” و”لالوم” و”موتى موتى” وغيرها.
والعرض كان أيضا مساحة لقول ما يجب أن يُقال، عن فلسطين التي أكد أنها لن تغيب عن عروضه، لا موقفا عابرا، بل قناعة متجذرة يريد ترسيخها في وعي الأطفال الذين يحضرون العرض من خلال أغنية “أراضينا”.
وفي أرجاء المسرح الأثري بدقة تعالت الهتافات لفلسطين متسربة من الركح إلى المدارج لتكثف التفاصيل اللافتة في عرض فتح بابا في التجريب الفني من المنتظر أن يراه الجمهور على أركاح أخرى.