فارس الأندلسي-في البداية، لم أكن متحمسا كثيرا لزيارة شينجيانغ، فبعد بحث قصير على مواقع التواصل، وللأسف مواقع غربية، وجدت الكثير من التحذيرات والبلاغات التي تحذر من السفر إلى هذا الإقليم، لما يعيشه من مشاكل واضطرابات وحتى الإضطهاد للأقليات العرقية، فكنت غير متحمس بالمرة للذهاب، حتى إنني ترددت في البداية وحاولت إيجاد أعذار للبقاء في بيكين، في النهاية قلت إن ما قرأته هو فقط من منظور الغرب، فلأعش المغامرة مثل ما هي وأرى الناس وأحوالها بناظري وأحكم بنفسي بدل أن أحكم على الشيء بأعين غيري.
إنطلقت الرحلة وكانت طويلة وشاقة، لم أستطع النوم يومها وكانت الرحلة مبكرة. عند الوصول، كان مناي الوحيد الذهاب إلى النزل والإستلقاء وأخذ قسط من الراحة، وفور خروجي من المطار، لسعتني نسمات هواء خفيفة في طقس مشمس وجميل يرد الروح. التفت عن يميني فوجدت مجموعة من الأشخاص تحييني بكلتا اليدين، وبابتسامة عريضة وجميلة، ونظرات مليئة بالفرحة والسرور. ورغم أن عائق اللغة كان حاجزا بيني وبينهم، إلا أنه لم يكن حائلا أمام فهمي لما يريدون قوله، فهم يرحبون بي ويعبرون عن فرحتهم لرؤيتي. كنت واقفا آخذ بعض الصور معهم حين جاءني دليلنا في الرحلة يناديني للذهاب لاستقابلنا الرسمي، فسألته، إذن من هؤلاء الناس الذين يلقون لي التحية؟
فاخبرني أنهم مسافرون عاديون وليسوا من الوفد، فهمت أنني في حضرة شعب طيب ومضياف…
صدقا كانت تلك التحية سببا في نسيان مشقة السفر..
كنت أستمتع وأنا في الحافلة في مشاهدة المباني والحضارة والتطور والرقي الذي تشهده المدينة، رغم بعدها عن العاصمة .. فتأكدت حينها أن تقدم الصين لا يشمل العاصمة والمدن الكبرى فقط، بل يشمل الصين كل الصين…
لفت انتباهي لباس تقليدي جميل تلبسه فتاة رقيقة جميلة قيل لي انه لباس المغول وهم من بين الأعراق التي تقطن في الإقليم، بعدها ببعض الأمتار لاحظت شابا بلباس تقليدي مختلف، سألت مرشد الرحلة: هذا أكيد لباس الشبان؟ فقال لي: أبدا هذا لبس الإغور، وهنا تريثت قليلا وتذكرت كل ما قرأته وسمعته عما يعيشه الإغور، فلو كان هذا صحيحا، هل يمكن لهذا الشاب التجول ولبس لباسه التقليدي بكل حرية؟ تيقنت حينها أننا نحن من في خارج الصين نرى العالم بأعين الغرب، الذي يمرر أجنداته عبر مواقعه لخدمة أهدافه السياسية.
انطلقت الرحلة الفعلية داخل المدينة وزرنا المنازل والأحياء والبيوت، كل شيء جميل في مدينة يعمها السلم، سكانها على اختلافهم في تظام مطلق، يشكلون فسيفساء حضارية واختلاف فكري وثقافي، يوحدهم وطن جامع وغاية واحدة وهي التقدم والرقي والنهوض بالإنسانية…
زرت في حياتي مدنا كثيرة وعرفت شعوبا وقبائل كثيرة، ولاحظت أن أكثر الناس في المناطق البعيدة عن العاصمة والمدن الكبرى وخاصة الحدودية، يتوجسون من الغرباء ويكونون على حذر منهم، ما عدا في هذه المدينة الجميع حيث يلقي التحية ويبادر بالإبتسامة… تجمعهم جميعا ضحكة خفيفة ونظرات في الأعين ترحب بي…
إنني من أشد الناس شراهة في الأكل وأنتقي جيدا الأكل الذي اعتبره مقدسا بالنسبة لي، وعند السفر في العادة أكل اطباقا عالمية، لأنني أتجنب في بعض الأحيان بعض المأكولات المحلية التي قد لا تناسب صحتي أو ذوقي… عند مروري بأحد الشوارع أغرتني رائحة طبخ زكية .. زكية لدرجة أن الجوع انتابني حينها، وكان معي صديق من أنجولا قال لي إن الرائحة مغرية للغاية وعلينا أن نجرب هذا الطبق، وكان في الحقيقة طبقا بسيطا: لحم مشوي مع خبز محلي وبعض البهارات المحلية، وكان شيئا في غاية الروعة وكان صاحب المطعم كريما جدا في وضع اللحم، وقدم لنا في النهاية طبقا من الغلال والفواكه التي كانت قمة في اللذة، كان الرجل كريما جدا حتى أنه رفض أن ندفع له سعر الأكل، تقاسيم وجهه تقول “وجودكم هنا أحسن من المال” فور خروجنا من المطعم فوجئنا بمرأة مسنة تركض نحونا وقدمت لنا قدرا فيه مشروب أبيض اللون قالت بالإشارة أنها هي من أعدته وهي تقدمه لنا لنجربه، وكانت هنا المفاجأة “زبادي” وهي أطيب والذ زبادي تناولتها في حياتي… لم أعرف كيف أشكر المسنة على هذا المشروب وفهمت أنها تريدني أن أزور بيتها… ترددت في البداية لأنني أتجنب منازل الغرباء لكن هزم الخجل أمام إلحاح المسنة، كان بيتها ضريفا تقليديا جميلا يرد الروح، أزرق اللون تتوسطه حديقة صغيرة، سارعي لقطف بعض الثمار من أشجار المنزل، فيما دخل علبنا أحد الأجوار حاملا لنا بعض الفواكه الجافة… ما هذا الكرم؟؟
عند خروجنا من المنزل قدمت لنا سيدة هي الأخرى تسكن في الجوار بعض الخبز التقليدي محلي الطبخ وكان كل شيء أتذوقه ينسنيني في الذي سبقه من شدة اللذة، تلك العفوية ورحابة الصدر تركت عندي إنطباعا أن هذا الشعب هو الأطيب وهو نادر الوجود…. تفاجأت بعدها حين سمعت أن كل الذين إستقبلوني في المنزل، من أعراق مختلفة ويعيشون في حب وسلام يوحدهم الوطن.
قيل لي أننا سنزور مدارس قرآنية وبعض المساجد في المنطقة، لم أصدق بكل صدق، لما سمعته من قبل حول وضع المسلمين، وصلت إلى بناية شاهقة وكبيرة، خلتها إدارة عمومية أو مستشفى أو شيئا من هذا القبيل، لكن هي في الأصل جامعة لتعليم القرآن، أقولها بكل صدق هي أكبر من أكبر جامعة للدين في الدول الإسلامية، وكان الطلاب يدرسون الفقه والدين بكتب باللغة الصينية والمحلية، عند تجولي بين رفوف المكتبة وقع ناظري على كتب دينية عربية، هي نفسها التي درسنا بها وهي المراجع العادية لدراسة الدين في أي بلد في العالم، بعض الكتب التي وجدتها محظورة في بعض الدول الإسلامية لما فيها من تعمق في فهم الدين، قال لي المشرف إن في الصين لا حدود للعلم وأن الجامعة تدرس القرآن والدين كما هو دون حذف أو تغيير..
ذهبت بعدها إلى مسجد قريب لمحته من بعيد، وخرجت لوحدي دون مرافقة وبعيدا عن الوفد، وجدت الناس تخرج من المسجد بعد أن أدت الصلاة، تحدثت مع شاب وجدته بالصدفة يجيد الإنجليزية، قال لي إنه يقوم بصلواته الخمس يوميا في المسجد، ويزاول تعليمه في الجامعة لأنه يريد أن يصلي الجمعة بالناس…
خجلت في الحقيقة… خجلت لأنني إكتشفت أننا نرى العالم من كذبة صورها الغرب، الذي لم يجد حلا لمنافسة العملاق الاقتصادي الصيني فذهب نحو الكذب والتشويه، واللعب على حقوق الإنسان الكذبة التي دمرت المنطقة العربية برمتها… حقوق الإنسان الحقيقة وجدتها في الصين حيث لكل مواطن سكن وعمل لائق وأجر يكفل له العيش الكريم ومواصلات تكفل له الراحة في التنقل، ودولة تحفظ كرامته، وحزب يفكر في مستقبل أمة برمتها.. لا أنسى ما قاله لي صديق عربي متزوج بصينية ومقيم في الصين، أن والده كان يقول له وهو صغير “يا بني لا أستطيع النوم وأنا افكر في مستقبلك” وصديقي الآن يقول ” أنا اليوم مرتاح لأن الحزب يفكر في مستقبل أبنائي نيابة عني”
كانت التجربة السريعة في فهم البلد وأحوال الناس ناجحة، وكانت الخلاصة أن هذه المدينة ليست كبيرة في المساحة فقط، هي كبيرة بكبر قلوب أهلها وترحابهم وكرمهم…. فسيفساء الحضارة والثقافة والتعايش السلمي جعل لهذا الإقليم رونقا ومنظرا بهيا…مما أنا متأكد منه أنني سأعود لها قريبا…