على خشبات مسرح كورتينا بالقلعة الكبرى الذي احتضن مساء السبت عشرين أفريل 2024 اختتام فعاليات الدورة السادسة من تظاهرة “مسرح 100 كرسي” بإدارة المبدع المسرحي محمّد علي سعيد أوغلت الممثلة الشابة آية باني في الإبداع من خلال تجسيد العمل المسرحي “ّذهان 4:48″، دراماتورجيا وإخراج معز حمزة وعن نص الكاتبة الانقليزية سارة كين.
أمام وجوه ناضرة و مستبشرة لجمهور يافع ومقبِل على الحياة من أبناء المعاهد الثانوية بالجهة، نجح المخرج القدير معز حمزة من خلال الديكور والمؤثرات الضوئية والصوتية في تحويل ركح مسرح كورتينا، على امتداد خمسين دقيقة تقريبا، الى عالم قاتم تتسلل رائحة الموت من كل زواياه ومن كل أركانه تمهيدا لترجمة ركحيّة لصراع أزلي لطالما انبنت عليه الذات الانسانية : البقاء والفناء.
صراع الأضداد
هو عالم صراع الأنا ضد الأنا، الذات ضد الذات، الروح ضد الروح… هي مجموعة من الاعتمالات النفسية التي حوّلتها الممثلة المبدعة آية باني الى مشاهد قاسية من حرب ضروس تدور رحاها في أعماق نفسها المهترئة والمضمحلّة بفعل الصراعات اللامتناهية التي ما فتئت تفتك بها. صراعات بين مجموعة من الأضداد التي طالما كانت منبعا للمأساة عند البشر كصراع الموت والحياة والحزن والفرح والخير والشر والإيمان والكفر والحب والكره واليأس والأمل والكبت والحرّية والزمن والسرمد وغيرها من المتضادات التي نجحت البطلة في تجسيد تناحُرِها على خشبة المسرح بكل اقتدار وتفان.
ولعلّ عامل “الصّدمة” الذي عوّل عليه المخرج في إبلاغ رسالته، وهو نوع أو شكل مسرحي ميّز أعمال الكاتبة سارة كين، كان حاسما في دفع الجمهور الغفير الحاضر خلال هذا العرض الى التماهي مع شخصيّة البطلة وتتبّع حركاتها وسكناتها على الرّكح في أدقّ تفاصيلها. حيث ما فتئت بطلة هذا العمل تجرّ المشاهد جرّا نحوها حتى يقاسمها آلامها وجروحها النفسية وكأنه طبيبها النفسي الذي تشكو له همومها وتعاتبه حينا وتهاجمه حينا آخر أو لتلقي عليه اللوم وتجعل منه شمّاعة لفشلها في الخروج من مأساتها وعزلتها وشعورها المتواصل بالسهاد والأرق والغضب رغبتها في كسر كل القيود الحسّية والعاطفية والدينية والجنسية .
وقد نجحت آية باني، ذات القدرات الفنية الهائلة والجسدية المتماهية مع طبيعة العرض وخصوصياته، في كسر الرتابة والملل من خلال التنويع المتواصل في الحركة على الركح والتعامل مع عناصر الإضاءة المختلفة الخافتة حينا والمبهرة حينا آخر حسب سياقات التجاذب والتصادم، وتحويل الفضاء الى ساحة صراع دائم حيث لم تترك قدماها شبرا واحدا إلا ووطأته ولم يترك جسدها المرن مرونة انسياب اليأس والألم داخله مكانا إلا ولامسه، بل وتمرّغ وتمرّد عليه.
هواجس تدمير الذات
إنّه صراع دائم ولامتناه لهذه الشخصية المصابة بمرض الذهان… هذا المرض الذي فصلها عن الواقع وجعل منها عدوّة لنفسها كارهة ونافرة للحياة وللآخر وراغبة في مناجاة الموت آملة قدومه حينا ومُستَقدِمته عنوة حينا آخر.
لقد أبدت الشخصية في هذا العمل رغبة جامحة ولامتناهية في تدمير الذات وتقويض كل الأسس التي انبنى عليها جسدها المتشح بالسواد… هو سواد قاتم وظلام حالك استولى على المكان والزمان والفضاء الذي تدور في فلكه روح الشخصية التي سعت حينا الى البحث عن بصيص من الأمل عبر احدى الزوايا التي أضاءتها بنورها الخافت وحينا آخر الى طمس كل معالم الحياة والأمل عنوة ودون هوادة.
إنها الرغبة في التدمير والتحطيم. رغبة في كسر الذات وتقييد الرّوح بالأفكار الهدّامة والمحطِّمة. رغبة جامحة في مغالبة الزمن ومسارعة الوقت لوضعِ حدّ ونهاية لعذابات النفس الأزلية… إنها الرغبة في كسر كل حواجز الوقت والمرور به للسرعة القصوى في نزال عنيد وتحدّ لامعقول ولامقبول ضدّ السائد والمنطقي… إنها الرغبة في استئصال الأنا من أعماقها وتمريغها في وحْل العذاب والتوهان… هي رغبة في معاندة الرّوح وتطهيرها ومغالبتها وتحقيق انفصامِها وانفصالها عن الجسد الزائل زوال الرغبة في الحياة من قلب البطلة… حتى كرسي الاعتراف الذي لم تجلس عليه الا مرات قليلة وسعت دون هوادة في مجانبته، مُجانَبتها لحقيقتها، لم يحٌل بينها وبين شغَفٍها القائم على انتزاع الروح من بين أضلُعِها اللينة والطريّة المكتنزة بعبق الأنوثة والجمال. فهي تُقاتِل من أجل الموت وتصارع من أجل الفناء وتحارب من أجل الزوال وتستميت في دفن ذكرياتها وماضيها وحاضرها في عالم سرمدي لا بداية له ولا نهاية فيه… إنّها الروح المتمرّدة التي أبت أن تعيش بلا معنى وسط صراعات لامتناهية وغير ذات معنى… فالموت هو السبيل الوحيد للبقاء والخلود أو هكذا خٌيِّل اليها…
إنّها رؤية عميقة وموغلة في جدلية الموت والحياة. جدليّة فلسفيّة ولئن حازت اهتماما كبيرا من قبل العديد من الكتّاب والباحثين الا أنّها لطالما ميّزت ابداعات سارة كين حيث كانت مسرحية “ذهان” آخر أعمالها وهي العمل الذي لخّص مُجمَل الصراع الدائر بين جنبيها قبل الاستسلام لمرضها ووضع حد لحياتها.
الجذاذة الفنية :
- ذهان 4:48
- دراماتورجيا واخراج : معز حمزة
-
مساعد مخرج عماد الوسلاتي
-
تجسيد اية باني
-
انتاج دروب (2024)