خيوط المطر ترتطم ببلور نافذتي فتوقد ذاكرتي التي تمنّعت عن النعاس ويستعر الحنين إلى أشخاص وأماكن تلاشى النسيان عند ذكراهم.
عقارب الساعة تصرخ في ركن غرفتي والوقت يركض محاكيا وقع المطر وأنا أتصفح ملامح حب مستحيل وأغمض عيني عند كل منعرج حتى لا تفلت مني تفاصيله.
عيناه، صوته، ابتسامته، سكناته، حركاته، كله حضر دفعة واحدة حتى ازدحم به قلبي وعقلي حد الانفجار، انفجار على هيئة دموع تحاكي المطر في الخارج.
وسط صخب الحب اختفى صوت الساعة وتعالى صوت المطر وانهمرت معها الأسئلة داخلي متولدة عن تساؤل لا ينتهي " لماذا ألاحق حبا مستحيلا؟".
فيما أعدد في سري أجوبة غير مقنعة واستنتاجات واهية يتسلل صوت المنبه ليكسر مونولوغا رسمت معه العبرات ابتسامة وهي تلامس شفتي..
ابتسامة مبهمة تحاكي دمعة ظلت طريقها سرعان ما تلاشت حينما أنرت الغرفة وحملت هاتفي بين يدي لممارسة طقس يومي، أتصفح وجهه في شاشة الهاتف وأملؤني بصوته ثم أشرع في العمل..
أكره الأحداث المكررة، لكنني اعتدتها يوميا، صورته وصوته ثم رحلة تصفح الأخبار وانتقاء ما يصلح منها للموقع ومايصلح للتعليق عليه أو البحث في تفاصيله.
لكن هذه المرة يكسر المطر الروتين ورحلتي إلى جدة لحضور مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ومباراة المنتخب الوطني مع المنتخب الفرنسي أيضا وكل ما تحمله من دلالات.
في لحظة ما أشفقت على قلبي فهو لا يقوى على تحمل هذا السيل دفعة واحدة، اشتقت إلى تونس قبل أن أغادرها لأيام، وتمزقت أفكاري بين عقل يدعوني إلى التفكير في الهجرة وقلب يضطرب لمجرد التفكير في الأمر.
مع كل سفر، أتذكر كل تفاصيل طفولتي وعلاقتي بعائلتي وأصدقائي، يتردد داخلي صدى صوت دادا ودعواتها التي تمثل لي الأمان وأتذكر وجع النزوح إلى العاصمة.
في الأثناء وقعت عيناي على مواعيد المباريات، فانتفض قلبي حينما رأيت توقيت مباراة المنتخب مع فرنسا وهبت معها قصص الاستعمار والتبعية وحروب الاستقلال.
الساعة الرابعة بتوقيت تونس أي السادسة بتوقيت جدة موعد وصول طائرتي، فارق التوقيت سرّع في نبضات قلبي وابتسمت أماني سيناريوهات كثيرة ولكن صوتا عميقا صرخ في ألاّ يأس مع الحياة..
مع كل الأفكار التي تزاحمت في رأسي كان لا بد من أن أغمض عيني لترتسم صورته داخلي وألملم نفسي وأتوجه إلى المطار حيث تتراكم حكايات الوداع…
في المطار وجوه كثيرة كل منها يروي قصته على طريقته، ولابتسامات المعتمرين أكثر من معنى، وللانتظار أكثر من عنوان عند التسجيل وبوابات التفتيش وصعود الطائرة.
حتى الإقلاع الذي كان يخيفني ما عاد يفعل، صرت أنظر إلى جناح الطائرة يتهادى دون أن يرجف قلبي بل إنني رسمت وجهه على الغيوم وحزنت الصورة في قلبي.
أربع ساعات في السماء، قسمتها بين التفكير فيه والحديث عنه مع الغيوم والحديث مع صديقتي ورفيقتي في الرحلة عن تونس وعن الصحافة وعنّا.
"نحن نمر الآن فوق نقاط الإحرام"، هذه الجملة انتشلتني من دوامة الأفكار، فكرة الهجرة وفكرة حبه وفكرة فوز المنتخب، فضممت يدي وكأني أمسك قلبي بينهما ودعوت حتى بكت جوارحي.
وعلى امتداد الميقات لم أتوقف عن الدعاء بشكل يشبه إيمان "دادا" صادقا بسيطا ومريحا، حتى وصلنا مطار الملك عبد العزيز. عندها نسيت المنتخب وحبيبي وفكرة الهجرة وصرت أفكر في قدرة الدول على التسويق لمهرجانتها على عكس ما يحصل في تونس مع الحكومات المتعاقبة.
وحينما وصلنا الفندق أخبرنا المرافقون أن النسور هزوا شباك الديكة فرقص قلبي فرحا وأينع الأمل داخلي وازددت يقينا أن في تونس سرا لا يفقهه إلا من أحبها بصدق..