بقلم : الدكتورة ربيعة ابن لطيفة **
يعدّ الفضاء العام مكانا متاحا للجميع للتعبير بطرق مختلفة، حسب اختلاف قدراتهم التعبيريّة وتمثّلهم للفضاء العام وامتلاكه… من هذا المنطلق سعى العديد من الفنّانين لاعتماد الفضاء العام أو الشارع كمحمل لممارساتهم الفنيّة بطرق متعدّدة سنسلّط عليها الضوء في جزء أوّل من هذا البحث… وسنخصّص الجزء الموالي لاعتماد الشارع كفضاء للاحتجاج على الظلم ووسيلة للمقاومة بالفنّ وسنعتمد “الغرافيتي” مثالا لهذه الممارسات الفنيّة في الفضاء العام. وانطلاقا من طبيعة هذا الفنّ الاحتجاجي والمقاوم…سنتطرّق للتجارب التي اعتمدت هذا الفنّ للانتصار للقضيّة الفلسطينيّة …
ثمّ سنسلّط الضوء أساسا على ما أثاره جدار العزل على حدود الضفّة الغربيّة من اهتمام العديد من الفنّانين، من بينهم بانكسي الذي زار فلسطين عدة مرّات حيث أنجز العديد من الأعمال على هذا الجدار من أجل كسر عزلة غزّة بالفنّ وإعلان انتصاره للقضيّة الفلسطينيّة… خاصّة وأنّ شهرة هذا الفنان العالميّة صدحت في سوق الفن التجاريّة العالميّة بهذه القضيّة الانسانيّة وهو ما أثار جدلا حول تحوّل القضايا الانسانيّة عن هدفها من عدمه… وهذا ما سنتناوله بالتحليل من خلال هذا البحث…
1-” فنّ الشارع”: منشؤه وطرقه
ينحدر “فنّ الشارع” l’art de la rue من ثقافة أمريكيّة شعبيّة وهي الهيب هوب Hip Hop وقد ارتبطت بالمناخ الاجتماعي المتوتّر الذي شهدته المناطق الحضرية الأمريكية في أوائل الثمانينات، والناتج عن هيمنة الليبراليّة مما يعزّز الشعور بالإقصاء لدى الفئات المهمّشة وهم أساسا السود. وكانت الممارسات الأولى لهذا الفنّ على الجدران وعلى عربات القطار. حيث كان المتساكنون السود يكتبون أسمائهم على الجدران احتجاجا منهم على اضطهادهم، وقد تبنّت “مدرسة نيويورك” الفنيّة هذه الاحتجاجات ونوّعت التقنيات، منها le blockletter وهي الكتابة بالأحرف الواضحة و le wildstyle وهي الكتابة بأحرف متداخلة و متلاصقة و مبهمة و le bublestye الذي يجعل الكتابة أشبه بصور و فقاعات، كما اعتمدت صورا تتراوح بين الكاريكاتور والواقع… وقد اعتمدت على أدوات و موادّ مختلفة بعضها لم يكن مستخدما من قبل وهي الأكريليك والفحم والملصقات وما يصطلح عليه بالفرنسيّة Bombe aérosol , aérographe والعديد من التقنيات الأخرى … لقد رسّخت ثقافة “الهيب هوب” التي انتشرت في الشوارع الأمريكيّة ممارسة الفنّ في إطار مجموعات لا تقتصر فقط على الرسم على الجدران بل تنفتح على فنون أخرى … من العروض التي تقدّم في الشارع:
- عروض الآداء: وهو نمط فنّي يتطلّب اتّصالا مباشرا بالجمهور، يتحدّد زمانه و مكانه بمدّة العرض ، يمكن أن يقدّم في الطريق العامّ ، في الساحات أو على ضفاف نهر ، في محطة قطار أو ميناء وأيضًا في أرض قاحلة صناعيّة أو مبنى قيد الإنشاء. ويمكن أن يعوّل مقدّم العرض على مهارات فرديّة أو بعض الأكسسوارات ونادرا ما يعتمد على سينوغرافيا ضخمة تضاهي ما يقدّم داخل قاعات العرض، و يمكن أن يكون العرض بالتنزّه أو على عين المكان
- الفنّ المتنقّل في الطريق: وهو فنّ يعتمد على عروض تنتقل من فضاء إلى آخر (ambulant)، تتملّك الفضاء العمومي لتقدّم الفنّ للمتلقّي في شكل خدمات، في بعض الأحيان بمقابل مثل العروض الموسيقيّة…
- الفنّ الحضري: وهي ترجمة من اجتهادنا للفظ الفرنسي l’art urbain
يتّخذ شوارع المدينة والسّاحات كمحمل وكفضاء للعرض، يقوم هذا الفنّ بمسرحة الشارع وهو فنّ يدخل تغييرات على النسيج الحضري ويترك أثرا. يخلق هذا الصنف جماليّة جديدة للفضاء الحضري، بشكل منظّم أو بشكل هامشي. يعدّ فنّ الغرافيتي جزءا من الممارسة الفنيّة في الوسط الحضري ولطالما استخدم للاحتجاج وللتعبير عن الثورة وقد شهدت العديد من البلدان العربيّة هذه الممارسة بأشكال شتّى منظّمة وهامشيّة خلال ما يصطلح عليه ب”ثورات الربيع العربي”.
2- “الغرافيتي” وسيلة للمقاومة:
- رسوم الفلسطينيين: من الجدران إلى الحاسوب
لقد تبنّى العديد من الفنّانين ثقافة فنّ الشارع أمريكيّة المنشأ بطرق مختلفة أهمّها الكتابة والرسم على الجدران في داخل فلسطين كوسيلة للمقاومة بالفنّ خلال معارك تحرير الأراضي الفلسطينيّة… ورغم الجغرافيا المجزّأة بفعل الاستعمار الصهيوني والزوال المحتوم لأعمالهم الفنيّة سواء بالفسخ أو بعد الهدم والخراب…فقد وجد الفلسطنيّون ومن يتضامن معهم من الرسامين طريقة لتوثيق أعمالهم على الجدران وإيصال رسائلهم للعالم…اعتمادا على مواقع الاتّصال الحديثة من فايسبوك وانستغرام. نذكر كمثال: صفحة “غرافيتي من فلسطين” graffitti from Palestine التي انطلقت على أعقاب هبّة الكرامة عام 2021 وتتواصل إلى اليوم، حيث انتشر الغرافيتي بشكل كبير في تلك الأيّام وتقوم الصفحة بتوثيق صور وفيديوهات لرسومات وكتابات على الجدران في فلسطين، ونشرها عبر صفحتها في فيسبوك وإنستغرام، مع نشر اسم المصور، والرسام، في حال وجد. كانت البداية بمثابة توثيق لحراك الغرافيتي خلال هبّة الكرامة، واستمرّت بعدها في توثيق كل غرافيتي يهتمّ بالقضيّة الفلسطينيّة، ومنه ما هو خارج فلسطين. تحوّلت المبادرة القائمة على التطوّع من قبل أشخاص إلى مبادرة تفاعليّة، إذ أصبح عدد من المتابعين لصفحة “غرافيتي من فلسطين” يرسلون الصور والفيديوهات من كل فلسطين ومن كامل أنحاء العالم، عكست الرسومات والمقولات المكتوبة الهويّة الفلسطينيّة الموحّدة من خلال استعمال الرموز، مثل الكوفيّة، وحنظلة، وخارطة فلسطين، وعلمها، وبعض أبيات الشعر ومقاطع من الأغاني التي تنشد حول البقاء والصمود والمقاومة. وقد ساهمت هذه الصفحة أيضا في توثيق ما يقوم به الاحتلال من تخريب الأعمال الفنيّة وفضح الممارسات القمعيّة للفنّانين وهم ينجزون أعمالهم.
أمثلة عن رسومات الفلسطنيين المرسومة والتي نشرت على صفحة “غرافيتي من فلسطين” :
فضلا عن الفلسطنيين الذين رسموا على الجدران في كامل أنحاء فلسطين وسعوا لإيصال صورهم للعالم فقد ساهم بعض الفنّانين في كامل أنحاء العالم برسومهم في دعم القضيّة …من بينهم اتخذنا كمثال بانكسي فنان الغرافيتي العالمي.
- تجربة بانكسي في فلسطين: بين الالتزام والجدل
يحمل بانكسي اسما مستعارا أو اسما حركيّا، ربّما كان هذا الاختيار نابعا من الرغبة في التفصّي من ملاحقة الشرطة، التي غالبا ما تقوم بمنع وقمع الأعمال الفنيّة في الفضاء العمومي تتّهمها بتشويه جماليّة الأماكن العامّة…عادة ما يتداول أنّ بانكسي هو شاب من بريستول بأنقلترا وأحيانا يقال أنّه اسم لمجموعة وليس شخصا واحدا لأنّ أعمالا تحمل توقيعه أنجزت في الآن ذاته في أمكنة متفرّقة… هذا الشخص الغامض… أنجز رسوما على الجدران تلتزم بقضايا اجتماعية و سياسيّة وانسانيّة ونقد للثقافة الاستهلاكيّة الجشعة… وقد أطلق في عام 2005 ، بانكسي مشروع Santa’s Ghetto، والذي يتكوّن من مجموعة من الرسوم على جدار العازل الذي يفصل الضفّة الغربيّة عن الأراضي المحتلّة. كان برفقته فنانين آخرين ويذكر أنّه زار فلسطين ورسم هناك مرتين أخريين سنة2007 وسنة 2017. ثمّ جمّعها في كتاب وقد صرّح فيه قائلا:
” بدأت اسرائيل عام 2002 في إقامة جدار عازل بينها وبين الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو في أغلبه غير قانوني وفقاً للقانون الدولي، إنه مراقب بعدد من نقاط التفتيش وأبراج المراقبة، وبارتفاع يفوق ارتفاع جدار برلين بثلاثة أضعاف، ويمتد لأكثر من 700 كيلومتر، المسافة التي تفصل لندن عن زوريخ، فلسطين الآن أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم ووجهة فناني «الغرافيتي» لتمضية عطلة مملوءة بالأعمال”.
هذه مجموعة من أعماله هناك
الحمامة المدرّعة هو عمل ينتقد أولئك الذين يشاركون في الصراع بين فلسطين وإسرائيل. وتصوّر الغرافيتي، المرسومة على الجدار الخرساني للضفّة الغربيّة، حمامة بيضاء، وأجنحة ممدودة ومفتوحة، تحمل في منقارها غصن زيتون، يعتقد أنّه رمز السّلام. لكن الحمامة المصوّرة هنا ترتدي سترة مدرّعة ويستهدفها سلاح نشاهده من خلال المؤشر الأحمر على صدرها. صورة الحمامة المدرّعة تعبير جريء عن الأبرياء الذين توجّه الأسلحة لصدورهم.
“Rage, the Flower Thrower” ou “Love is in the Air””الغضب، قاذف الزهور” أو “الحب في الهواء” هي واحدة من الغرافيتي الأكثر شهرة لبانكسي. وهي تصور فلسطينيا ملثّما يرمي باقة من الزهور. من خلال استبدال السلاح بباقة من الزهور، يدعو بانكسي إلى السلام. لقد اختار إعداد هذه الرسالة بالذات في منطقة شديدة الصراع.
غرافيتي بعنوان الأطفال والشاطئ تصور صبيين صغيرين بالأبيض والأسود يلعبان على الرمال. تعلوهما فوهة تطلّ على شاطئ جميل، يقف الطفلان خلف السياج ولديهما معاول ودلاء. يبدو أنهما سعيدان وينظران إلى المشاهد. لا يمكن الوصول إلى الشاطئ لأن الفوهة مرتفعة للغاية. بانكسي ينتقد الجدار وحقّ كل إنسان في الأمل في مستقبل أفضل بطريقته ويفتح أبواب أمل لرؤية جدار العزل بشكل مختلف هناك رسوم أخرى في نفس السياق:
THE BOY AT THE BEACH الطفل في الشاطئ
WINDOW ON THE NEXT BANK نافذة على الضفة الغربية
WINDOW ON THE NEXT BANK نافذة على الضفة الغربية
CUT IT OUT للقصّ
STABLE CONDITIONS الأوضاع مستقرّة
أراد بانكسي أن يظهر من خلال هذه الجداريّة أنّ الحيوان أيضا محاصر في غزّة كما أنّه صوّر جداريّات أخرى في بيت لحم سنة 2017 سأقدّم منها هاتين الصورتين الأولى لطفلة تقوم بتفتيش جندي إسرائيلي بعنوان:
UNE FILLE QUI FOUILLE UN SOLDAT الطفلة التي تفتّش الجندي
والثانية بعنوان :
” السلام في الأرض”
في دعمه أيضا للقضيّة الفلسطينيّة عمد بانكسي إلى دخول غزّة والترويج لها كوجهة سياحيّة بمناسبة العام الجديد وقد لاقى الفيديو التروبجي الساخر الذي التقطه لجولته بين الأنقاض وحطام المباني ورسوماته الساخرة صدى كبيرا من متابعيه في موقعه على الانترنات… الأعمال التي نشاهدها في الفيديو هي أعمال مثيرة للجدل تعبّر على قوة شخصية الفلسطنيين التي نراهم إلى اليوم يرقصون ويحتفلون ويتحدّون الموت بحبّ الحياة رغم الدمار، الصورة الأولى لأطفال يتأرجحون على برج مراقبة.
والثانية لأمّ رسمت كآلهة إغريقيّة تنتحب أطفالها…
و الصورة الثالثة لقطّة جميلة
نشر بانكسي على موقعه على الانترنات أن رجلا غزاويا سأله ماذا تقصد بها فقال له: اردت تصوير الدمار في غزة ولكنّ الناس لا يلتقتون على الانترنات سوى لصور القطط الجميلة.
“Un homme du quartier s’est approché et m’a demandé : “S’il vous plaît qu’est-ce que cela signifie ?” J’ai expliqué que je voulais mettre en lumière la destruction de Gaza en publiant des photos sur mon site web mais sur Internet, les gens ne regardent que des photos de chatons.” Banksy
أمّا هذه الصورة فقد رسمت على جدار العزل ولكنّها ليست الصورة الوحيدة لطفلة تحمل بالون ويمكن اعتبارها أيقونة فنّ بانكسي أو الغرافيتي الأكثر جدلا…
كانت أوّل رسومات بانكسي لطفلة تحمل بالونا تحت قنال شهير وسط لندن عبر تقنية مايصطلح عليه بالفرنسية pochoir واشتهر ذلك الرسم كثيرا بعنوان هناك دائما أمل ولكنّ بانكسي في مارس 2014،
في الذكرى الثالثة للصراع في سوريا، أعاد النظر في عمله ونشره على موقعه على الإنترنت. قام بتغطية رأس الفتاة الصغيرة لتبدو لاجئة سورية وأضاف هاشتاغ #WithSyria وهي حملة لدعم الأطفال السوريين تم تنظيمها جنبا إلى جنب مع منظمة العفو الدوليّة….
زادت شهرة هذا الرسم لدرجة أنّه استخدم في عالم الموضة والتزويق وكذلك استعمله المغني جاستن بيبر كوشم على ذراعه دعما لأطفال سوريا…. وفي 5 أكتوبر2018 بيعت نسخة عن هذا العمل في مزاد علني في دار Sotheby’s أشهر دور البيع بالمزاد العلني وهي على ملك الفنّان الانقليزي داميان هيرست Damien Hirst … اشتهرت هذه الدار بالأسعار الخياليّة للأعمال الفنية حيث بلغ عمل بانكسي سنة 2018 ب 1.2 مليون أورو، فور انتهاء عمليّة البيع ضغط مجهول على زرّ أتلف جزءا كبيرا من الصورة وسط دهشة الحضور…
يقال أنّ بانكسي هو من فعل ذلك رفضا منه لبيع أعماله الفنيّة التي تعبّر عن القضايا الانسانيّة…. وهو ما طرح مجموعة من الأسئلة بعد تلك الحادثة مباشرة : كيف دخل بنكسي لقاعة البيع بالمزاد العلني دون رقابة ؟ لماذا عرض لوحته للبيع وجهّزها بآلة مخرّبة تشتغل عن بعد؟ إن كان لا يريد بيع عمله لماذا أتلف جزءه السفلي فقط وحافظ على الجزء العلوي؟ ألن تتضاعف القيمة الماليّة لهذا العمل الفني بعد هذه “الهابننغ” أي الإتلاف الجزئي للوحة أمام الجمهور؟ الإجابة جاءت سنة 2021 عندما بيع العمل المتلف عشرين مرّة ضعف المرّة الأولى أي ب 21 مليون أورو.
*تم تقديم هذا النص خلال الندوة الفكرية التي نظمتها جمعية علوم وتراث بالقلعة الكبرى يوم السبت 25 نوفمبر تحت عنوان "دور النخبة التونسية في دعم القضية الفلسطينية ** أستاذة مساعدة بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس